في زمن يشهد تغيرات جيوسياسية وتحالفات عالمية جديدة، تبقى الشراكة الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة ركيزة أساسية للاستقرار الإقليمي ونموذجًا للتعاون المتعدد الأبعاد.
هذه الشراكة تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، وتطورت على مدى عقود لتشمل مجالات الدفاع، والتنمية، والتجارة، والدبلوماسية.
لطالما كانت مصر ركيزة استقرار في منطقة مليئة بالنزاعات. سواء في وساطتها بقطاع غزة، أو جهودها لوقف إطلاق النار في السودان، أو في مكافحة الهجرة غير النظامية، تظل مصر عنصرًا لا غنى عنه في الأمنين العربي والعالمي. يعكس التعاون الأمني بين مصر والولايات المتحدة التزامًا مشتركًا بمحاربة الإرهاب، وحماية الممرات البحرية الإقليمية، وتعزيز الحلول السلمية للنزاعات المستمرة.
أبرزت الأزمة التي اندلعت في السابع من أكتوبر، في ظل التدهور المتسارع للوضع الإنساني في غزة، الدور المحوري لمصر، وجعلت من وساطتها عنصرًا أكثر حيوية وضرورة في مسار إدارة الأزمة الإقليمية.
إن مبادرة مصر لوقف إطلاق النار، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وإعادة إعمار غزة بعد انتهاء الصراع، والتي تدعمها جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الأوروبي، تؤكد موقفنا المبدئي من حل الدولتين. موقفنا واضح: لا يمكن تحقيق السلام المستدام إلا من خلال تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
وتوجت جهود الوساطة بعقد “قمة السلام حول غزة” في شرم الشيخ يوم الثالث عشر من أكتوبر، بعد التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب وبدء المرحلة الأولى من خطة السلام، ما وضع حدًا للعمليات القتالية. جمعت القمة شركاء دوليين أساسيين بقيادة الولايات المتحدة، لمناقشة مستقبل غزة من حيث الإدارة والأمن والاحتياجات الإنسانية. تعكس قيادة مصر في تنظيم هذه القمة التزامها الثابت بالسلام والاستقرار، وتبرز مجددًا الدور المهم للشراكة المصرية– الأمريكية في ترجمة الدبلوماسية إلى إنجازات ملموسة على الأرض.
كانت زيارة شرم الشيخ ناجحة على المستويين السياسي والدبلوماسي، إذ أعادت الزخم للعلاقات المصرية– الأمريكية وشهدت لقاء مثمرًا بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في لحظة إقليمية ودولية معقدة. ومع ذلك، لا يمكن اعتبار القمة نقطة تحوّل نهائية، بل فرصة لإعادة الانخراط مع الولايات المتحدة على أعلى المستويات في ملفات متعددة، من الاقتصاد والطاقة، إلى الأمن الإقليمي، والتحول التكنولوجي، والتنمية المستدامة.
لكن البناء على هذا الزخم يتطلّب معالجة أربعة تحديات أساسية؛ التحدي الاقتصادي يتمثّل في ضرورة تحويل التفاهمات السياسية إلى استثمارات ومشروعات مشتركة تُعزّز الثقة في الاقتصاد المصري وتفتح آفاقًا جديدة أمام الشركات الأمريكية. أما التحدي السياسي فيكمن في الحاجة إلى حوارٍ مستمر يوازن بين المصالح الوطنية المصرية والمصالح الاستراتيجية الأمريكية، في ظل بيئة سياسية أمريكية داخلية منقسمة وتبدّل أولويات واشنطن. ويُضاف إلى ذلك التحدي الجيو–استراتيجي الناتج عن تعقّد المشهد الإقليمي وتزايد المنافسة بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط، بما يفرض على مصر الحفاظ على موقعها كركيزة توازن وشريك موثوق. وأخيرًا، تعقيدات التفاهمات في الملفات الحساسة كالأمن الإقليمي، والطاقة، والتكنولوجيا، ما يستدعي تنسيقًا دقيقًا يضمن تحقيق مصالح متبادلة قائمة على الشفافية والاحترام.
إن نجاح قمة شرم الشيخ لا يقاس بالصور واللقاءات فقط، بل بمدى قدرتنا على تحويل هذه اللحظة الدبلوماسية إلى مسار مستدام من التعاون العملي، يعزز مصالح البلدين، ويخدم استقرار المنطقة بأكمله..
في الوقت نفسه، تواصل مصر لعب دور أساسي في الحفاظ على استقرار منطقة البحر الأحمر، رغم التوترات الأخيرة التي تهدد أمن حركة التجارة العالمية. تؤكد مصر أهمية إرساء آليات تعاون إقليمية شاملة للدول العربية والأفريقية، ويبرز في هذا السياق الدور المصري في دعم الاستقرار في السودان، من خلال قيادة الجهود الإنسانية ومساعي تثبيت وقف إطلاق النار.
على صعيدٍ آخر تشهد مصر تحولًا اقتصاديًا واسعًا، تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي يعتمد على الإصلاح الهيكلي، وتمكين القطاع الخاص، والانفتاح العالمي. في صميم هذا التحول، يظهر إجماع وطني على أن القطاع الخاص هو المحرك الرئيس للنمو والتنمية.
حددت مصر، وبوضوح، دور الدولة، من خلال "وثيقة سياسة ملكية الدولة،" حيث تتحول من مشغل إلى منظم، مع تمكين رأس المال الخاص في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، وتكنولوجيا المعلومات، واللوجستيات. انعكاسًا لهذا التحول الكبير، تجاوزت الاستثمارات الخاصة نظيرتها العامة لأول مرة منذ عقود خلال العام الماضي فقط.
نفتح الأبواب ليس فقط للاستثمار، بل لنعيد تصميم المنظومة بأكملها. شهدنا مبادرات تحذو بخطى ثابتة لتبسيط الإجراءات، وتحديث النظام الضريبي، والتحول الرقمي، وإصدار "الرخصة الذهبية،" والتي تسهل دخول المستثمرين إلى السوق المصري بسهولة غير مسبوقة. في القطاعات ذات الأولوية، باتت الحوافز واضحة، والإجراءات أكثر سرعة وشفافية، والفرص الاستثمارية وفيرة ومتنامية.
يمنح الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمصر عند ملتقى أوروبا، وآسيا وأفريقيا، ميزة طبيعية، لتكون مركزًا لوجستيًا وصناعيًا. وتبقى قناة السويس من أهم الممرات التجارية في العالم، حيث تمر عبرها 12٪ من حركة التجارة العالمية. ومع محور السخنة–الدخيلة، وتوسيع الموانئ، وإنشاء خطوط السكك الحديدية السريعة، لا نحسن الاتصال فحسب، بل نعيد تشكيل طرق التجارة العالمية.
ومن خلال اتفاقيات التجارة الحرة التي تغطي أكثر من 70 دولة، بما في ذلك منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، والسوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا، والمناطق الصناعية المؤهلة، توفر مصر للمستثمرين إمكانية الوصول إلى أكثر من 1.3 مليار مستهلك معفاة من الرسوم الجمركية. تتجاوز الشركات الأمريكية العاملة في مصر حدود سوقٍ واحدة، إذ تنتمي إلى شبكة تجارية واسعة ومتكاملة.
كما تبنت مصر المستقبل عبر التزامها بالتحول الأخضر. وبفضل هدفها المتمثل في الوصول إلى 42٪ من إنتاج الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، ومشروعات رائدة مثل محطة بنبان للطاقة الشمسية، أصبحت مصر مركزًا إقليميًا للطاقة النظيفة.
تُترجم منصة ترابط المياه والغذاء والطاقة، التي أُطلقت في ظل رئاسة مصر لمؤتمر تغير المناخ السابع والعشرين، الالتزامات المناخية إلى مشاريع استثمارية عالية التأثير. ولا يقتصر هذا التحول الأخضر على الاستدامة فحسب، بل يشمل أيضًا الاقتصاد الذكي. فالتحول نحو الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والمناطق الصناعية المستدامة يفتح أسواقًا جديدة يتواكب فيها هذا الزخم الأخضر مع استثمارات كبيرة في رأس المال البشري. فثروة مصر الحقيقية هي شعبها، الذي يضم أكثر من 31 مليون عامل ماهر ومتعلم. تضع الإصلاحات التعليمية، وتوسيع التدريب المهني، وتحسين الرعاية الصحية، الأسس لاقتصاد حديث قائم على الابتكار. في الوقت نفسه، تتسارع عملية التحول الرقمي من خلال استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية، والمدن الذكية.
في هذا السياق، أصبحت المشروعات الكبرى مثل العاصمة الإدارية الجديدة ومجمعات الابتكار مثل "القرية الذكية" مراكز جذب للتكنولوجيا وريادة الأعمال.
كما أن التقدم الأخير في إلغاء القيود على واردات السيارات الأمريكية، وإعفاء منتجات الألبان الأمريكية من شهادات الحلال، يؤكد التزام مصر بحل مشكلات المستثمرين وتعزيز التجارة مع الولايات المتحدة. في الوقت ذاته، تلعب وزارة الخارجية دورًا نشطًا في “الدبلوماسية الاقتصادية” لنقل هذه الرسالة عالميًا. نعمل على إيصال الرسالة بأن الاقتصاد المصري جدير بالثقة وجاذب للاستثمار سواء من خلال المشاركة في المنتديات الدولية، أو التواصل مع الجاليات المصرية، أو التفاعل المباشر مع المستثمرين.
يعٌد أيضًا اجتماع “اللجنة الاقتصادية المشتركة المصرية–الأمريكية” في واشنطن في سبتمبر 2024 خطوة مهمة لتعزيز العلاقات الاقتصادية، إذ أعاد إطلاق المحادثات الجادة حول التجارة والاستثمار، وتناول القضايا التي تواجه الشركات، وفتح مجالات جديدة للتعاون في قطاعات الطاقة والزراعة والبنية التحتية والتكنولوجيا. واستمر الزخم مع “منتدى الاستثمار المصري–الأمريكي” الذي عقد في القاهرة في مايو 2025، وجمع كبار رجال الأعمال والمستثمرين والمسؤولين. سلط المنتدى الضوء على الإصلاحات الاقتصادية المصرية، وفرص الاستثمار الواعدة. هذان الحدثان وضعا أساسًا قويًا للتعاون بين الشركات الأمريكية والقطاع الخاص المصري المتنامي.
تقدم مصر أكثر من مجرد سوق لشركائنا الأمريكيين. إنها شريك استراتيجي، تضم شعبًا شابًا وطموحًا، وتتمتع بموقع مستقر، ورؤية شاملة للنمو المستدام والشامل. دعونا نبني على عقود من التعاون ونغتنم هذه اللحظة لتعميق شراكتنا سواء في مجالات الطاقة النظيفة، أو التحول الرقمي، أو الأمن الغذائي، أو اللوجستيات الإقليمية، فالوقت للتحرك هو الآن. معًا، يمكننا تحويل هذه اللحظة إلى حركة نحو الازدهار والاستقرار والنجاح المشترك.
سفير دكتور/ سامح أبو العينين استاذ العلاقات الدولية بكلية الدراسات الدبلوماسية بجنيف زميل مركز جنيف للسياسات الأمنية مساعد وزير الخارجية المصرية السابق للشؤون الأمريكية



