محمد بغدادى
المتحف الكبير.. حكايات ومواقف
ذات صباح قبل نهاية صيف 1988، اتصل بى الأستاذ مفيد فوزي، رئيس تحرير مجلتنا "صباح الخير"، وكنت بالمنزل، وقبل أن أقول ألو، كانت جملته الأولى المباغتة وبنبرة مفيد فوزى دار الحوار سريعًا ــ بغدادى.. أنت فين؟ ــ حضرتك طالبني في البيت ــ قلمك وحشني. ــ شكرًا يا أستاذ مفيد. ــ أنا عارف إنك بتحب تشرب قهوتك سخنة، منتظرك تشرب معايا فنجان قهوة قبل ما يبرد. ــ شكرًا على القهوة يا أستاذ مفيد.. اطلبها لي لما أوصل.
وطوال الطريق كنت أفكر ماذا يريد مني رئيس التحرير، وكنت قد توقفت عن الكتابة أكثر من ثلاثة أسابيع، بعد خلاف حول بعض الموضوعات، وبعد نصف ساعة كنت في مكتب رئيس التحرير، ودار بيننا حوار وعتاب، وفجأة وسط الكلام سألني عدة أسئلة سريعة كطلقات الرصاص بإيقاع مفيد فوزي المعهود: ــ نفسك تكتب عن إيه؟.. بتفكر في إيه؟.. نفسك تكتب عن مين؟.. نفسك تحاور مين؟ ــ نفسي أعمل حوار مع وزير الثقافة الفنان فاروق حسني ــ تسأله عن إيه؟ ــ عن مصير متحف التحرير بعد إقامة المتحف الكبير، و... و... و... وقبل أن أتم كلامي كانت أصابع الأستاذ مفيد تدير قرص التليفون وطلب بالفعل وزير الثقافة.
ودار بينهما هذا الحوار على طريقة مفيد فوزي: ــ ألو.. الوزير الفنان فاروق حسني.... أنا مفيد فوزي.... يجلس أمامي زميلي الصحفي المشاكس محمد بغدادي.. عنده أسئلة مهمة تحتاج لإجابة عاجلة... يقابلك إمتى؟ بالطبع كنت لا أسمع إجابات الوزير.. ولكن فهمت من الإجابات من خلال حوار مفيد فوزي معه الذي دار كالتالي: ــ
الأسئلة لا تحتمل التأخير للأحد..... أنا عارف إنك بتسافر الإسكندرية كل يوم خميس والساعة دلوقتي 12 .. بغدادي حيكون عندك بعد ساعة... الحوار ياخد ساعة.... وبعدها سعادتك تسافر بالسلامة الساعة أربعة... العنوان لو سمحت... اكتب يا بغدادي المعادي شارع......... شكرًا معالي الوزير. موجهًا كلامه إلىَّ: ــ كمل قهوتك وانزل فورًا .. ومعاك العنوان ونمرة التليفون، الوزير في انتظارك.
حاولت أن أعترض: ــ يا أستاذ مفيد كنت تديني فرصة أحضر أسئلتي!!! ــ أنت لا تحتاج لتحضير أسئلة .. وبعد أقل من ساعة كنت فى منزل الفنان فاروق حسني.. وكنت قد رأيته بالمجلة مرة في مكتب مفيد فوزي، وعندما تولى منصب وزير الثقافة التقى بنا نحن الكتاب والصحفيين المسؤولين عن الأقسام الثقافية، بمسرح السامر، في مؤتمر صحفي كبير.
دار بيننا حوار طويل، تناولت فيه كل ما يهم المصريين حول الثقافة والآثار آنذاك.. وقضية كتف أبو الهول، وإقالة الدكتور أحمد قدري، وكانت هناك أصوات معارضة، ونشر الحوار في المجلة في عددين متتاليين، وأعتقد أنه كان أول حوار وقتها يتناول موضوع المتحف الكبير بهذا التوسع والوضوح.
وكان السؤال الأهم حول المتحف الكبير ومصير متحف التحرير: وبهرني يومها الفنان فاروق حسني، وهو يصف لي حلمه الكبير، وهو يتحدث عن صورة بدت لي وكأنها أمامه وهو يسبح في فضاء كوني لا حدود له، وكأن ما يتحدث عنه هو مبنى خرافي يراه هو وحده ويتخيله دون أن نراه، وأخذ يصف لي متاحف العالم التي نالت شهرتها العالمية من عدد القطع الأثرية للحضارة المصرية القديمة التي تعرض بها بطريفة مبهرة تفتقدها متاحفنا، وحدثني عن اللوفر فى فرنسا، والأرميتاج في روسيا، ومتحف لندن في إنجلترا، والمتروبولتيان في أمريكا، وتورينو في إيطاليا، ومتحف بولونيا، ومتحف نابولى....و.. وأخذ يعدد المتاحف ويذكر لي الكم الهائل من آثارنا في متاحف العالم، وهي معروضة بشكل مبهر، وكيف أن متاحف العالم تتباهى بكنوزنا الأثرية العريقة، ونحن لدينا ثلث آثار العالم، وفي "مخزن التحرير".
وعاد ليقول أقصد في متحف التحرير لدينا أكثر من مئة ألف قطعة أثرية نادرة الوجود، 75% منها في المخازن، ومازالت هناك كنوز مكدسة في متاحفنا الأخرى، وكنوز لم تكتشف بعد، ونحن لسنا أقل تحضرًا من هذه البلاد المتقدمة التي تحتفي بحضارتنا المصرية القديمة على هذا النحو، وكان الفنان فاروق حسني يتحدث إليّ بحماس المؤمن بأفكاره، والمدرك لقيمة مصر الحضارية، بعد أن شاهد بنفسه عبر وجوده كملحق ثقافي في باريس، ثم مديرًا لأكاديمية الفنون بروما.
واختتم كلامه بعبارة مهمة ظللت أرددها دائمًا حتى الآن، فقال: "نحن وإن كنا نصنف على أننا دولة من دول العالم الثالت، ولكننا دولة عظمى ثقافيًا، نحن لا نرى أنفسنا جيدًا، ولكن العالم كله يدرك تمامًا قيمة مصر، ونحن الدولة الوحيدة التي يُدَّرس تاريخها فى معظم دول العالم".
هكذا بدأ الحلم في وقت مبكر، وبذل الفنان فاروق حسنى جهدًا كبيرًا لكي يحققه، وعندما تمت الموافقة، أعلن عن مسابقة دولية لتصميم المبنى العملاق للمتحف الكبير، فتقدم 1573 مكتبًا هندسيًا بتصميمات مبهرة من 83 دولة، ووقع الاختيار على قائمة قصيرة لعدد 20 تصميمًا إلى أن أجمعت لجنة التحكيم على التصميم الحالي الذي تم تنفيذه، والذي قال عنه المهندس البريطاني المعماري "مارتن بيست"، أحد المصممين الرئيسيين للمتحف المصري الكبير: "إن العمل في المشروع بدأ مباشرة بعد فوز شركته بالمسابقة العالمية لتصميم المتحف عام 2004، إنه مشروع لا يتكرر، يجمع بين العلم والفن والروح المصرية التي ألهمت العالم كله، هذا المشروع الذي تحول لاحقًا إلى أحد أعظم منجزات العمارة الثقافية في العالم."
وعندما بدأت الأعمال التحضرية لإقامة المتحف الكبير وتم تخصيص الأرض، ووضع الرئيس الأسبق حسني مبارك ومعه فاروق حسني حجر الأساس، خصصت فيلا صغيرة تابعة لتفتيش آثار الجيزة أقام فيها بشكل دائم، بل كان يبيت فيها أحيانًا بعد عمل شاق بشكل متواصل على مدى الـ24 ساعة، الصديق والقيادة الثقافية الذهبية النادرة محمد غنيم الذي كان رئيسًا لقطاع العلاقات الثقافية الخارجية، وملحقنا الثقافي الأسبق بنيويورك، والذي عين مديرًا تنفيذيًا لمشروع المتحف المصري الكبير، وذات يوم سألت الفنان فاروق حسني بشكل مباشر: "لماذا محمد غنيم بالذات؟"، فقال لى: "أولا لأنه أحد أهم الكوادر الثقافية النادرة فهو الجاد والدقيق والدؤوب والصارم في عمله، بالإضافة إلى أننى أثق فيه بشكل شخصي لأنه نظيف اليد فقد عملنا معا بالإسكندرية وأعرف مستوى أدائه جيدًا، وبالفعل شاهدت ذلك بنفسي، وأعتقد أنه لولا وجود محمد غنيم ــ رحمة الله عليه ــ على رأس هذا المشروع الضخم لما تم هذا الإنجاز بهذا الايقاع الجاد الدقيق السريع.
وقد كنت فخورًا عندما دعانا الوزير الفنان فاروق حسني عام 2005 لافتتاح المرحلة الأولى، عندما تم إنشاء مركز ترميم على أعلى مستوى عالمي، مزود بأحدث الأجهزة، ليستقبل ويرمم القطع الأثرية التي ستعرض بالمتحف" وكم كنت أرى السعادة ترتسم على وجهه وهو يرى حلمه يتحقق.
والآن يجب على كل مصري أن يفخر بحضارة بلاده وهو يرى هذا الحدث العالمي الذي تتطلع له كل شعوب العالم ورؤساء وزعماء وقيادات العالم كله، وقد جاءت إلى مصر مهد الحضارة، لترى هذا الإنجاز المبهر الذي سيمثل هرمًا رابعًا بجوار أهرامات مصر الخالدة، وستتابعه الملايين عبر البث المباشر حول العالم، إنها مصر، وإنها حقًا دولة عظمى ثقافيا، وستبقى على مر العصور دولة عظمى.
















