"آخر المعجزات".. بطل يبحث عن بطولة!
هند سلامة
في "معجزة" إحدى القصص القصيرة الواردة بالمجموعة القصصية "خمارة القط الأسود" للكاتب الكبير نجيب محفوظ لعب البطل لعبة من باب التسلية؛ عندما قرر أن يلقي أول اسم مبهم يخطر بباله على أنه شخص معروف يسأل عنه؛ ثم تحدث معجزة ويسمع صوت النادل بالحانة يسأل عن نفس الاسم الذي ألقاه البطل عليه منذ قليل فهناك من يهاتفه أيضًا باحثا عنه؛ يزهو بطل الرواية بنفسه ويشعر وكأنه صاحب كرامة وله قدرة خارقة؛ يكرر اللعبة من جديد مع نفس النادل وفي نفس الحانة على اسم آخر غريب وتقع نفس الواقعة وتلك المرة يؤكد له صاحب الاسم الملفق أنه قادم للقائه؛ هنا يبدأ البطل في تصديق أنه صاحب قوة خارقة!
في الفيلم القصير "آخر المعجزات" المأخوذ عن نفس قصة محفوظ القصيرة، والذي عرض مؤخرًا ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.. قرر المخرج الشاب عبدالوهاب شوقي في أولى تجاربه السينمائية أن يأخذ تسلية هذا البطل ودعابته على محمل الجد؛ أفرد لها رؤية وسياق آخر فتحت هذه القصة القصيرة أفق خياله السينمائي على وعي أكثر عمقا ودقة في تناول أزمة بطل مأزوم يحيا على الهامش؛ حياة تافهة يبحث لها عن معنى؛ يشعر "يحيي" بالاغتراب والانفصال عن واقعه؛ يهرب بالسكر وشرب الخمر لما يلقاه من نبذ واحتقار؛ مجرد رجل يكتب في صفحة الوفيات بالجريدة ثم أخطأ في اسم أحد أولياء الله الصالحين حوله من "مأمون" إلى "ميمون" يعرضه هذا الخطأ للتوبيخ من مديره ونفهم من أداء الفنان خالد كمال وطريقة جلسته واستقباله لهذه المكالمة أنه ضاق بحاله من هذه الحياة الخالية من أي معنى.. وفي لحظة قدرية فارقة يدعوه النادل لتلقي مكالمة من نفس اسم المتوفى الذي أخطأ في اسمه ويدعوه الرجل للقائه.. ليتحول حاله من النقيض إلى النقيض وكأنه وجد ضالته!
تتحول حياة "يحيي" بهذه المفارقة القدرية يلبي ويستجيب للنداء ويبدأ في اتباع طقوس هذه الطريقة الصوفية.. أخيرًا وجد معنى لهذه الحياة الفارغة؛ يخرج من حالة الانفصال والعزلة ويعود إلى الاتحاد مع واقعه الجديد؛ يتحد مع هذه الطريقة الصوفية واتباعها.
ويبدأ في ممارسة طقوسهم حتى تأتي له امرأة تطلب منه الدعاء والبركة لأن كل أبنائها توفوا ولم يبق لها أمل سوى هذا المولود؛ ولأنها شهدت كرامته في المنام أتت إليه ساعية وسوف تطلق اسم "يحيي" على مولودها القادم؛ يحيا "يحيي" حياة ملغزة منذ اتباعه لهذا النداء السحري تدعوه لحل لغز كيف أن 1+1=1؛ يتحول قدره من انسان غارق في وحدته يهرب منها بدوام الجلوس في الحانة إلى عالم التصوف بألغازه وأحواله الغريبة.. عالم يعده بأن يصبح بطلًا؛ يبحث هنا عن دور بطولة كما بحث بطل محفوظ عن "معجزة" أن يتحول قدره وطموحه من مجرد إنسان عادي قد يعامل بالزجر والإهانة إلى قديس صاحب دعوة وكرامة؛ عليه فقط أن يسلك الطريق ويحل اللغز!
تعدنا الأساطير والأشياء الخارقة دائما بالنجاة من واقعنا المؤلم.. تتقاطع الرؤيتين في بحث البطل عن معجزة خارقة تحوله إلى أسطورة يحكى عنها بينما يعود ويصطدم في الحالتين بواقعه المؤلم؛ فالمسألة لم تخرج عن كونها مجرد دعابة من مجموعة من السكارى معه بالحانة؛ في تلك اللحظة يتعرض "البطل" إلى صدمة تسقطه من علياء أمله المنشود إلى الهاوية ثم تتحقق النبوءة التي تنبأ بها هو نفسه قبل وقوع الحادثة.. بأن أحدًا سوف يموت الليلة؛ ونكتشف في النهاية أنه هو الميت الجديد؛ بذكاء شديد ولغة سينمائية رفيعة يقدم المخرج عبدالوهاب شوقي قراءة موحية ناضجة غنية بالتفاصيل البصرية والفكرية؛ كما وقع "يحيي" في حيرة إذا كان من المصطفين الأخيار أم مجرد إنسان عادي اختار شوقي أن يوقع المشاهد أيضا في نفس الحيرة كيف كان لهوا وتحققت نبوءته؟!!.. هذا التساؤل المحير واللغز الذي أغلق به مشهد النهاية يترك المشاهد في حالة فكر وتساؤل ما الذي حدث وأين الحقيقة؟!!.. وكأن هذا هو واقع الحياة تدهشنا دائما دون أن نصل إلى إجابة شافية مريحة؛ تراوغ بأحلامنا دون أن نصل إلى حقيقة؛ أدهشنا شوقي وأبطال عمله السينمائي الأول في إعادة قراءة "معجزة" نجيب محفوظ؛ التي عرض فيها المواطن المصري للنقد والمساءلة في تلك الحقبة الزمنية إثر تعرضه لصدمة موت الحلم بعد نكسة 67 صدمة لم يستوعبها ولم يتمكن من التعايش معها؛ التيه والفراغ والشعور باللاجدوى كانت التيمة الأساسية التي لعب عليها محفوظ والتي دفعت بطله للهو باحثا عن معجزة تنجيه من انفصاله عن الواقع الذي عجز عن الاندماج فيه؛ ثم تتواصل الصدمة بإعادة نقد وقراءة وصياغة درامية لشاب في عصر حديث يتعرض لنفس التيمة موت شخص بالحياة؛ فهو يحيي الذي لا يحيا حياة طيبة كريمة جعلته في حالة استسلام وتسليم تام للغيبيات التي ستنجيه من واقع مادي استهلاكي ينشغل فيه المرء بأي شيء سوى ذاته؛ وهو ما دفع "يحيي" إلى الإقبال على رحلة اكتشاف الذات والروح في عالم الصوفية فهي السبيل إلى النجاة حتى لو كان باب الوصول معتمدا على خرافة؛ حلقة دائرية تربط بين عالمين زمن كتابة الرواية في ستينيات القرن الماضي وزمن معالجتها سينمائيا في واقع معاصر تشابه فيه البطلان في الرغبة بالهروب من حياة مميتة.
















