

د. فاطمة سيد أحمد
تقية أرباب «التوريث»
تحل الأحداث فتقوم بكشف وجوه وحقائق وتفضح المستخبى، هذا ما حدث على مدار ٤٨ ساعة من نهاية الأسبوع الماضى، عندما أعلن وفاة الرئيس الأسبق (مبارك) ومع أنه على مدار ٩ سنوات مضت لم يهدأ الحديث عن هل عندما يموت ستكون له جنازة عسكرية أم لا؟ ومع أن هذا الأمر تحدده المؤسسة العسكرية فقط لا غير إلا أن البعض أطلق لنفسه العنان بالقول الجاهل تمامًا فى مثل هذه الأمور والتى تقول يحرم القائد العسكرى من ذلك فى حالة واحدة فقط وهى (الخيانة العظمى) والتى تعنى فى القانون العسكرى أن يكون هذا القائد قد قام بالاتصال بالأعداء وقت الحرب ومنحهم معلومات عسكرية، ولكن هذا والحمد لله لم يحدث من أى قائد عسكرى مصرى على مر التاريخ وهو راجع لدقة الاختيار..
الشيء الآخر أن الدولة نجحت بجدارة فى إدارة الحدث الذى عبرت عنه فى بياناتها المتتالية من مؤسساتها المختلفة التنفيذية والدينية، ومنحت الإعلام فرصة عمره ليثبت لها أنه واع بما يمكن أن يصاحب هذا الأداء منها، وأن يقفوا فى تناولهم عند النقطة التى أنهت بها بياناتها وهى مشوار الحياة المهنية العسكرية ثم القفز من فترته الرئاسية وذكرت فقط تنحيه لكى تعطى الشعب المصرى رسالة مهمة لإلغائه وهى أن تلك الجنازة العسكرية من أجل عطائه العسكرى فقط لاغير، ولذلك أنهت بياناتها بتنحيه دون ذكر الأسباب وكان من الممكن أن تقول إن التنحى كان بناء على إرادة الشعب الذى قام بثورة نظيفة قبل الاختطاف، ولكنها لم تتطرق لذلك حتى يلتفت الإعلام إلى تحديد المضمون والمحتوى الذى سيعبر من خلاله عن بيانات الدولة، ولكن ما حدث كان قمه الإخفاق والرسوب للإعلام عامة، أما الفضائيات المملوكة لرجال الأعمال خاصة فكانت حدث ولا حرج، لقد خلعت الأقنعة كاشفة عن وجهها الحقيقى بكل غباء ودون مواربة أو خجل.
بداية تسرع الإعلام الرسمى المعبر عن الدولة ليصدر تقريرًا عن إخفاقات مبارك فى حكمه وجاءت بأحد أرباب النظام والمعروف عنه الجمع بين الرأى وعكسه لزوم المقام، وهذا الرجل الذى كان جزءًا من نظام مبارك بكل تفاصيله وحتى الآن يشغل منصبًا ثقافيًا للأسف، صوّب بوصلته تجاه الهجوم حتى جاء الإشعار الآخر فتوقف، والأكثر أنه ذهب معزيًا فى الجنازة ومعلنًا عن حضوره للكاميرات دون أدنى خجل، ولكن ربما كان هذا الرجل هو أقل ما قدم من ازدواجية فى هذا الحدث، لنجد قنوات رجال أعمال عهد مبارك والذين يقدمون أنفسهم فى مناسباتهم الخاصة سواء فى الانتخابات البرلمانية أو أعمالهم الثقافية والخيرية المشبوهة وكأنهم رؤساء جمهوريات، وتُحدَّد لهم فترات زمنية تفوق ما تحدده لرئيس الدولة ومع ذلك لا نجد أحدًا يُبدى نقدًا أو اعتراضًا عما يحدث وكأن هذه الفضائيات دولة داخل دولة.
كل ما سبق ذكره كان جزءًا عابرًا كالمقبلات التى تقدم فى المطاعم قبل الوجبات، لنأتى إلى الطعام الدسم والمهم والذى كان عبارة عن فتح ساعات إرسال متواصلة ليأتى كل رجال نظام مبارك سواء من كانوا فى الصحافة أو الإعلام أو وزراء أو مسؤولين، وبالطبع رجال الأعمال وأصحابهم، حتى أن تلك القنوات بكل غباء أذاعت افتتاحات لمشاريعهم بواسطة مبارك فى تباهٍ غير مفهوم أو مبرر سوى أن هؤلاء يقدمون أنفسهم لنظام داخل أحلامهم ما زال يداعبهم، يرون أن الواجهة ما زالت موجودة (علاء وجمال) الذين كانوا ينطقون أسماءهم مسبوقة بـ(السيد فلان) فى حين الأسماء الأخرى لم يقرءوها بذلك، وما يثير الدهشة هو استضافة كل رجال النظام من الصحفيين ومداخلات شتى لمسؤولى هذا العهد بشكل مكثف على مدار يومين حتى أن العقل الجمعى للشعب المصرى توجه إلى هذا العهد ونسوا أنهم تركوه من عشر سنوات، وأن أحداثًا جللا وقعت، وأن ثورة عفية قامت بإزاحة جماعة إرهابية كانت تعد العدة للانحراف بشكل الدولة والعباد.
الحقيقة التى لم أفق منها حتى الآن والتى تحتاج لإجابة على من قاموا بها هى تلك القنوات الخاصة التى لم يكن لها شاغل سوى نفى إثبات مشروع (التوريث) وبكل بجاحة كان السؤال يلقى كالقذيفة المدوية فى الآذان، لأن أصحاب السؤال والضيوف الذين استجلبوا للإجابة كانوا من أهم المشاركين فى تنفيذ التوريث بكل دقة، فلماذا السؤال؟ لتأتى الإجابة بالنفى القاطع يادى الخزى ويادى العار، يعنى حضراتكم بتتبعوا أسلوب المتأسلمين باتباع مبدأ (التقية) تنفون وتكذبون وكل منكم كان يعلم أين سيكون عندما كان سيتم التوريث، وكأننا نحن معشر الصحفيين لم نكن نتابع ونرصد ونكتب ونسأل عن هذا المشروع الذى قضى على تكافؤ الفرص حتى صارت جميع المهن مورثة لتهيئة المناخ العام لاستقبال المورث الرئاسى.
الغريب فى الأمر هو حديث أحدهم عن أن مبارك لم يكن لديه (هيكل) واحد فقط كما كان ناصر ولكن هياكل كثيرة، ومع أننا كنا نعلمهم ولكنهم كشفوا أنفسهم للرأى العام بعد كل هذه السنوات، طيب إيه المطلوب هل تقدمون أنفسكم بأنكم صالحون لهذا المقام الآن؟ أم ماذا تريدون؟ وهل كان موت مبارك فرصة لا تعوض للخروج من جحوركم فى عز النهار وبمساعدة إعلام رجال الأعمال، هل هؤلاء الرجال قادمون بفعل فاعل وفى استغلال حدث للإعلان عن أنفسهم وإثبات ولائهم للمورث وهل يعدون العدة للرجوع، هل يأملون الدخول فى معترك الانتخابات الرئاسية فى يوم ما؟ أم أنه رجوع عن طريق باب مجالس النواب والشيوخ والمحليات؟
انفض مولد موت مبارك، ويبقى أن ترجعوا بالشعب إلى (جمهورية السيسى) الجمهورية الرابعة للدولة المصرية، بعد أن أخذتمونا غصبًا وعدوانًا إلى مشروع (التوريث) وكان نفيكم هو تذكرة تلوّحون بها لنا والله أعلم بما تُضمرون، ولكن فى إدارة الحدث نجحت الدولة وسقط الإعلام.