

سهام ذهنى
في مواجهة الألم "ريستارت"
مشكلة ألم الجسد تزداد حين يتسبب في وجع الرأس، مما يعيق حيوية الذهن ويغيظ المزاج.
مشكلة ألم الجسد تزداد حين يمتد الألم في جزء من الجسم إلى أجزاء أخرى، كأن بقية الأجزاء تتضامن مع الجزء العليل، فيتحرك المريض وكأنه يجر قدماه جرا. وتظهر أسئلة فلسفية تزيد من أحمال الذهن المرهق، أسئلة من نوعية هل الجسد يحمل الإنسان، أم أن الإنسان في وقت المرض هو الذي يحمل جسده ويحمل أوجاعه، بل ويضطر أن يتحمله على الرغم من انه يئن من ثقل الحمل.
إنما تتوارى هذه النوعية من التساؤلات تحت وطأة الألم حين يبدو وكأن غالبية خلايا الجسم متربص بكل منها شخص يدوس عليها بلا هوادة. أو كأن الأبواب مؤصدة على خلايا الجسم في مساحة ضيقة مما يجعل الخلايا مضغوط عليها. أو كأن الخلايا قد صارت محشورة في مكان ضيق فلا تستطيع أن تتحرك. كأن الجسد مقيدا في كرسي أتوبيس متهالك يسير في طريق غير ممهد، بينما الجالس في المقعد الضيق لا تتوفر له مساحة ليمد ساقيه أو ليريح ركبتيه، وليس أمامه سوى أن يتحمل لحين وصول الأتوبيس أو الحافلة إلى مكان يتوقف فيه، فيتم فتح الباب، ويغادر الراكب المحبوس في كرسيه الضيق الحافلة، يفرد ساقيه ويستنشق الهواء في البراح.
ولأن الوصول والمغادرة ليست في يد الراكب فإن الألم عندما يزداد يتسبب عادة في تقليل القدرة على التركيز. فالعقل مشغول بمواجهة أسباب الألم، ومشتت من الوجع. وقد يصل الأمر إلى أن يتسبب الألم في عرقلة قدرة العين على أن تظل مفتوحة. خاصة عند ارتفاع درجة الحرارة فالصهد الذي يضخه الجسد تنكسر من وهجه العينين. مما يجعل الجسد في احتياج شديد لإغماضة الجفون، حتى لو لم يتمدد المُتعب في الفراش، وحتى لو لم يستغرق في غفوة، إنما مع التعب بمجرد أن يغمض جفنيه إذا به يشعر أن جسده يرسل رسالة إمتنان وتحية للروح التي أمرت بإسدال الجفون.
يكاد المريض يعتبر أن الطعام الجميل هو ذلك الطعام الذي لا يتسبب تناوله له إلى وجع في البطن. فيتجاهل بكبرياء ما كان يحب من أطعمة، ويرمي بنفسه في أحضان المسلوق وناقص الملح وعديم النكهة.
ويكاد المريض يعتبر أن تعريف السعادة هو ألا يشعر بوخز الألم. خاصة حين تتصاعد درجة تضامن بقية أجزاء الجسم مع الجزء العليل وصولا إلى ما يشبه الإضراب.
ولا يتم البدء في فك الإضراب إلا بالتفاوض، إنه التفاوض على منح الجسد المنهك قليلا من الراحة، وكثيرا ما تتحول إلى كثير من الراحة، وتتعطل غالبية الخطط اليومية.
ومثل عمل "ريستارت" لجهاز بإغلاقه ثم عند فتحه من جديد تتحسن فيه أشياء عديدة، كذلك يفعل النوم مع الجسد. فمثلما يقال أن الكمبيوتر "بيهنج". وأن الحل المبدأي هو إغلاق الجهاز ثم إعادة فتحه، وأيضا في التليفون المحمول صار هذا الأسلوب كخطوة أولى لحل مشاكل الإلكترونيات هو نفسه خطوة أولى لحل مشاكل أجهزة الجسم العليلة، الدخول إلى الفراش ، وتصبح على خير أيها الألم.
بالطبع الأمر ليس بهذه البساطة دائما، إنما كثيرا ما ينجح هذا الأسلوب، على الأقل في تخفيف الألم.
فهجوم المرض يبدو مثل الغارة التي يشنها العدو مستخدما كل أسلحته، فيقاوم الجسم مستخدما أسلحة جهازه المناعي الذي يبذل مجهودا شديدا فترتفع عادة حرارة الجسم، ويصبح الدخول إلى الفراش صيانة لطاقة الجسم بعدم تبديدها في أعمال أخرى لكي لا تتشتت الطاقة، إنما تتوجه بأكملها بفضل الله لصد الهجوم المعادي.
يتخلل مثل تلك الليالي الدعاء والتلاوة مما يحفظ الإنسان من سور القرآن الكريم، كما تتضمن الكثير من الإستغفار. فلا ينقذ من عتمة الليل على المريض إلا أن يتذكر أن الله معه، وأنه الشافي المعافي، وأن بذكر الله تطمئن القلوب، وخاصة في الثلث الأخير من الليل.
وحينها ما أجمل صحبة سورة "الرحمن" بصوت جميل وإحساس مرهف مثل صوت الشيخ "أحمد العجمي"، أو تلاوة شخصية داخل الوجدان لمن يحفظ السورة، ولتوفير الجهد تكون التلاوة بدون تحريك الشفاه، إنما بتمعن في نعم الله ورحمته. فهو الذي سيشفي وهو الذي نعيش في ظل نعمه ما بين الشمس والقمر بحسبان وبين الأرض التي فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، أما في حالة الوفاة فإنه هو الذي يطمع الإنسان في رحمته بأن يدخله الجنة بفضله، حيث من كل فاكهة زوجان، والفرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان.
وما أجمل الحصول على النوم بعد هذه التأملات والأمنيات.
ثم نهار فيه كما في الأمثال "تبات نار تصبح رماد".
وَنَس نور النهار ويقظة الأحياء فيه تخفيف من الألم، وربما إيقاظ للأمل.
ففي مراحل من الحياة قد يتعرض الإنسان لاستبداد الجسد.
قد يرغمه الجسد على الذهاب للطبيب ويجبره على الخضوع للأشعات والتحاليل، وقد يواصل إستبداده بسلسلة من الأوامر: لا تأكل، لا تتحرك، لا تخرج.
لكن ما أجمل أن يلهمه الله الإطمئنان إلى أن المولى سبحانه هو الشافي المعافي.
ويتكرر الحمد والشكر للمولى سبحانه، بل ويخجل الحمد عند حمد الله سبحانه الذي يحيي المريض بعد شعوره بأنه كان قد اقترب من حافة الموت. الله الذي يلهم روح الإنسان أن تنتفض وتعلنها للجسد المستبد بحسم: تستطيع أن تكبل الحركة، وأن تقهر الانطلاق، وأن تتكبر. لكن الله أكبر. فيجد المريض نفسه يكاد أن يهتف: سأنطلق، وأقهر القيود، بل وسأحلق. فلا سلطان للجسد على الأحلام.