

محمد عبد الرحمن
فاطمة الهواري "لن" تُصالح
فضاء مسرحي يطغى عليه اللون الأسود، كرسي متحرك، طاولة، مفارش فلسطينية الهوية، شموع، سطل حليب، كوفيات فلسطينية، شاشة بعرض المسرح، هي كل ما استخدمه المخرج غنام غنام في عرضه الجديد "فاطمة الهواري – لا تصالح" إلى جانب ممثلين اثنين هما أماني بعلج وأحمد العمري وكان غنام ثالثهما على الخشبة.
اجتمعت في "فاطمة الهواري – لا تصالح" عناصر جذب عدة لكن أبرزها على الإطلاق التوقيت، ربما بدأ غنام التحضير له قبل طوفان الأقصى لكن عروضه تزامنا مع ما يجري في غزة والضفة جاءت لتؤكد أن الجريمة الصهيونية مستمرة، كما هي بنفس تفاصيلها، قبل قصف فاطمة الهواري وأسرتها، وصولا إلى قصف غزة ورفح وخان يونس ودمشق والدوحة وصنعاء وطهران.
الجريمة الإسرائيلية واحدة، والسردية الكاذبة هي ما يواجهه "غنام غنام"، من خلال العرض الصادر عن فرقة "مسرح فلسطين حرة"، الذي جاب أكثر من بلد عربي قبل أن يصل إلى مسرح السامر ضمن عروض الدورة الثالثة لمهرجان إيزيس لمسرح المرأة.
"فاطمة الهواري" بنت "ترشيحا" التي تقع في شمال الجليل والتي فشل جيش الاحتلال في دخولها حتى بعد مرور 6 أشهر على إعلان دولتهم وتأكيد نكبتنا، ليكون الحل هو ضربها بالطيران، ليقتل عائلة فاطمة الهواري بأكملها وفي مقدمتهم خطيبها رمزي قبل أيام من العرس ويتركها قعيدة بدون قدمين، رغم ذلك تمسكت بعد العلاج بالعودة لبلدتها من جديد.
قصة أشهر جريحة فلسطينية كان من الممكن أن تنتهي دون مزيد من التراجيديا لكن الطيار الإسرائيلي آبي ناتان الذي قصفها ودمر حياتها وحياة عائلتها في 28 أكتوبر 1948 عاد إليها بعد نحو خمسين عاما يطلب الغفران، عرضوا عليها الحصول على تعويض فأبت، طالبته بأن يكتب اعترافا بأنه مذنب فأبى، الطيار الذي ادعى منذ الستينيات أنه "داعية سلام" كان يريد إراحة ضميره بالحصول على صفح ضحاياه لمجرد أنه قال "آسف" فيما جرائم الاحتلال لا تسقط بالتقادم، فيما طالبته الهواري بأن يعيد لها ما ضاع.
ما سبق حكاية مروية عبر عقود يعرفها من يقرأ ويتابع، تقديمها على المسرح كان من الممكن أن يأخذ الشكل الوثائقي الرتيب، لكن غنام ورفاقه، خصوصا مؤلف الموسيقى ماهر الحلو ومصمم الإضاءة ماهر الجريان، صنعوا فضاء مسرحيا قادرا على استيلاب المتفرج بحيث يشعر أنه دخل إلى القضية وتحديدا إلى بيت فاطمة الهواري وهي تستقبل الطيار المعتذر.
انطلق العرض من دردشة عفوية بين الثلاثي والجمهور تمهيدا لجرعة من الحزن والأسى تمتد طوال ستين دقيقة، حيث تحرك الزمن طوال الوقت، نرى فاطمة قعيدة في البداية وقد طعنت في السن ويرعاها ابن أخيها، ثم بظهور الطيار الإسرائيلي تبدأ مرحلة الفلاش باك لتجسد لنا الممثلة المميزة أماني بلعج ما لم تسجله الكاميرا في 1948 وتستعيد مع الموسيقى والإضاءة لحظة القصف قبل أن تعود للحاضر مجددا وترفض عرض "آبي ناثان"، وتؤكد أنها لن تُصالح.
أحسن المخرج والكاتب غنام غنام اختيار فريقه، وكانت المفارقة أن بلعج تونسية ومع ذلك قدمت اللهجة الفلسطينية باقتدار، واستخدمت جمال صوتها لاستعادة أجواء قرى الجليل ما قبل وبعد النكبة، فعشنا معها ماضي فلسطين وحاضره، حيث القضية تقبع في صدور وذاكرة أصحابها، فيما خاض الممثل الأردني أحمد العمري مهمة صعبة، مقدما شخصية ابن الأخ تارة والطيار مدعي السلام تارة أخرى ونجح في الفصل بينهما بحيث يشعر المتفرج أنه أمام ممثلين مختلفين وليس أمام مؤدٕ واحد، بينما اكتفى "غنام" بشخصية "رمزي" أو "شبح العريس" الذي ظهر في أوقات معينة لدعم فاطمة معنويا، لإنعاش ذاكرتها، لإبعادها عن مغريات الحصول على عطايا الاحتلال مقابل الصفح عنه، ليذكرنا بشخصية "شبح الملك" في هاملت التي طالبت الابن بالانتقام وأرشدت عن القاتل، فيما القاتل في "فاطمة الهواري – لا تصالح" امتلك قدرا من التبجح مكنه من الإعلان عن نفسه طالبا الصفح، ربما ليدرك مجددا هو ومن معه أن فاطمة مثلها مثل أي فلسطيني لا ولم ولن تُصالح.