عاجل
الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

"تادمكة".. حكاية مكة الإفريقية في مالي

مدينة "تادمكة "(Tadmekka)، أو مدينة السوق أو "مكة الجديدة"، هي واحدة من المدن الإفريقية الإسلامية التي ذاع صيتها بين الشعوب والسكان المحليين في مناطق غرب إفريقيا أو بلاد السودان الأوسط، بحسب المصطلح الوارد في المصادر العربية والإسلامية القديمة التي تؤرخ إلى حقبة العصر الوسيط. 



وتقع أطلال تلك المدينة التاريخية القديمة أو مدينة السوق في دولة مالي حاليًا، وقد كانت "تادمكة" قبل أن تفقد الكثير من أهميتها ومكانتها ضمن إحدى ممالك شعوب البربر، وتحديدًا قبائل صنهاجة الصحراء وهم المعروفون بشعب "الملثمين" لأنهم يرتدون اللثام على وجوههم ليقيهم حرارة الشمس. 

 

 

وتقع "تادمكة" في قلب الصحراء جنوب "بلاد الهُكار" أو الأهجار التي تقع جنوب الجزائر وشمال بلاد السودان الغربي وغربي مدينة (آير) التاريخية وشرقي موريتانيا.

 

 

ولعل من أبرز ما ارتبط بمدينة تادمكة أنها واحدة من المراكز التجارية المهمة عبر دروب ومسالك الصحراء الكبرى، وكانت مقصدًا للتجار القادمين من شمال إفريقيا ومصر بهدف الذهاب إلى أسواق بلاد غرب إفريقيا حيث مناجم الذهب وأسواقه وتجارته المعروفة منذ أقدم العصور التاريخية، ولعل ذلك ما جعل تادمكة مهمة تجاريًا على غرار مكانة مكة التجارية القديمة قبل الإسلام، والتي تشهد قدوم التجار في مواسم الحج لزيارة بيت الله الحرام وقبر النبي (ص) وكذلك بهدف التجارة وتبادل السلع والبضائع بين كل من التجار القادمين من شتى بلاد الإسلام. 

 

 

وليس مستغربًا أن تعرف مدينة "تادمكة" بحسب البعض: مكة الجديدة، أو شبيهة مكة، وعن هذه المدينة يقول أحد المؤرخين القدامى (صاحب كتاب "الروض المعطار"): "تادمكة: في بلاد السودان هي أشبه بلاد الدنيا بمكة شرفها الله، ومعنى تاد عندهم هيئة أي: على هيئة مكة، وهي مدينة منيعة كبيرة تقع بين جبال وشعاب، وهي أحسن بناء من مدينة غانة، وكوكو (كاوا) (وهي مدينة جاو حاليا في مالي). 

 

 

وأهل تادمكة بربر مسلمون وهم يتنقبون (باللثام) كما يتنقب بربر الصحراء وعيشهم من اللحم، ومن اللبن ومن حب تنبته الأرض من غير اعتمال".

 

 

وكانت القوافل التجارية تأتي أسواق "تادمكة" من شتى البقاع وعبر الكثير من الطرق التجارية المعروف منذ القدم، ولعل من أهمها: طريق تلمسان القادم في الجزائر (أو بلاد المغرب الأوسط)، وكذلك "طريق القيروان" القادم من تونس حاليًا، و"طريق طرابلس" القادم من الأراضي الليبية، و"طريق القاهرة" للقادمين عبر الواحات المصرية ثم عبر واحات ليبيا، ومن ثم الاتجاه جنوبًا، إما لبلاد وسط إفريقيا أو التوجه إلى بلاد السودان الغربي (غرب إفريقيا) حيث أسواق الذهب.

 

 

وتُعد "تادمكة" اليوم ضمن البلديات التابعة لولاية "كيدال" أقصى شمال جمهورية مالي، وهي على بعد 60 كم صوب تخوم الشمال الغربي على مشارف الحدود بين كل من شمال مالي مع التخوم الجنوبية لدولة الجزائر. 

 

 

ويبلغ عدد سكان مدينة "تادمكة" حاليًا مع المناطق المحيطة بها حوالي 49 ألف نسمة. وتشتهر تلك المدينة في المصادر التاريخية التاريخية باسم: مدينة السوق، أو تادمكة، وتعد تسميتها باسم "السوق" تسمية متأخرة، ولكن جرى تغليب الاسم الأخير (السوق) على مرادفه (تادمكة)، وقد صار الناس لا يكادون يذكرونها إلا بـ"السوق"، وهذا شيء مألوف في المدن الإفريقية القديمة، وكذلك في المدن الإسلامية بصفة عامة، وهو أن المدينة الواحدة قد تحمل عدة أسماء فيجرى تغليب اسم واحد على ما سواه، مثل: أم القرى، ومكة، وبغداد، دار السلام، والمدينة وطيبة، والقاهرة مدينة المعز، ومدينة مصر، وأم الدنيا، وغيرها، وتسمى هذه المدينة باسم "السوق" بالعربية، وكذلك "أسوك"، وتادمكة بلغة البربر "الطارقية"، ولكثرة الأسماء دلالة على أن المسمى ذو شأن بين الناس، ومحل عناية واهتمام.

 

 

وعلى أي حال فإن مدينة "تادمكة" التي كانت تقبع في بلاد السودان الغربي (غرب إفريقيا) إبان العصور الإسلامية، كانت تمتاز بدور سياسي مهم يكمل مسيرة الأحوال السياسية بالشطر الغربي من العالم الإسلامي منذ حقبة القرن الثاني الهجري/ القرن الثامن الميلادي وحتى القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، فهي مطلب تلك القوى السياسية بداية من دولة الأدارسة التي تأسست على يد العلويين في المغرب، وكذلك الدولة الرستمية في الجزائر، ودولة بني مرار "الدولة المدرارية" التي قامت بدورها في مناطق شمال إفريقيا، ثم انتهاءً بمملكة الكانم، والبرنو في تشاد، وسلطنة الصنغي الإسلامية التي قامت على أنقاض مملكة مالي الإسلامية.

 

 

كما شكلت مدينة تادمكة عنصرًا فاعلًا في الجانب الاقتصادي وتحديدًا فيما يخص النشاط التجاري منه، أو ما يعرف بحركة التجارة الصحراوية، حيث كانت محطة رئيسية لقوافل التجارة العابرة لدروب لصحراء الكبرى من بلاد شمال إفريقيا إلى أواسط القارة أو بلاد السودان الأوسط بحسب المصادر الإسلامية (تشاد حاليا). 

 

 

وعلى هذا صارت مدينة تادمكة مركزًا تجاريًا وسوقًا كبيرًا في عمق الصحراء الكبرى، وكانت تتميز بوجود البضائع المتنوعة التي كان يحملها التجار القادمون من كل حدب وصوب، كما تعتبر مدينة تادمكة بأحوالها السياسية والحضارية صورة من صور الحضارة الإسلامية، وازدهارها في مناطق غرب إفريقيا، حيث ظهرت أعرق الممالك والسلطنات الإسلامية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، ولعل أشهرها وأبرزها على الإطلاق مملكة غانة (غانا) الإسلامية، ومملكة مالي الإسلامية، ومملكة صنغي الإسلامية، وكذلك ممالك بلاد الهوسا التي تأسست في مناطق شمال نيجيريا حاليًا، ومناطق جنوب النيجر.. إلخ.

 

 

وبحسب بعض المؤرخين يعتقد أن تاريخ مدينة السوق (أي تادمكة) قديم جدًا ربما يرجع إلى حقبة القرن الأول الهجري، وامتد نشاطها وازدهارها وزادت أهميتها بمرور الزمن إلى القرن العاشر، ولاتزال الأقاصيص المتداولة تتحدث أن هذه المدينة عاشت نشاطًا حيويًا، كما أنها شهدت في ذات الوقت حراكًا علميًا واقتصاديًا أشار إليه الرحالة ومؤرخو العصر الوسيط الذين زاروا تادمكة خلال عصور ازدهارها، أو ممن عاصروا تلك الحقب المزدهرة من تاريخ هذه المدينة الإفريقية العريقة.  

 

أستاذ مساعد– كلية الآداب والعلوم الإنسانية الجامعة الإسلامية بمينيسوتا

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز