عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي

حكاية سلطنة مقديشو

تقع مقديشو على المحيط الهندي، وهي مدينة تتميز بوجودها فوق ربوة عالية، ويحدد البعضُ المسافة بينها وبين ميناء عدن على ساحل اليمن: "ومن عدن إلى مقديشو موسم، ومن مقديشو إلى كلوة موسم ثانٍ..". وتُعد سلطنةُ مقديشو Sultanat of Mugadisou من أقدم الممالـك الإسلامية التي كانت قد تأسست في شرق إفريقيا. 



ومن المعروف أن الزيديين الشيعة نزلوا بساحل الصومال من شرقي إفريقيا، قريبًا من سواحل مقديشو، حوالي سنة 122هـ/ 739م، وبسطوا مواطنهم بالتدريج على امتداد الساحل واختلطوا بالسُكان الأصليين وصاهروهم ونشروا الإسلام بينهم. 

ثم جاءت هجرة عربية أخرى من بنى الحارث يقودها سبعة أخوة، وأنشأوا مقديشو في حوالي سنة 295هـ/ 908م، ثم انسحب الزيديون إلى الداخل تاركين الساحل للمهاجرين من قبيلة بني الحارث، وهم من أهل السنة، وهو ما يظهر تحولًا عقائديا مهما في ذلك الوقت. 

ثم تحالف بنو الحارث مع السكان المحليين في هذه البلاد وأقاموا مدنا أخرى، ثم أسسوا في مقديشو مملكة إسلامية قوية، ذات شوكة. 

وتُشير المصادر التاريخية إلى أن سلطنة مقديشو كانت تشتهر بـ"الثياب"، وكان هذا النوع من الثياب يتم تصديره إلى الأسواق المصرية وغيرها، وعلى هذا كانت مقديشو مركزًا تجاريًا مهما في شرق إفريقيا، ومن ثم صارت سلطنة مقديشو أيام ازدهارها مقصدًا لأعداد كبيرة من طبقة كبار التجار القادمين من بلاد الحبشة ومن السودان الغربي، والمغرب الأوسط، إضافة إلى أولئك التُجار القادمين من المراكز التجارية الأخرى الواقعة في جنوب شرق آسيا، وكذا في ممالك شرق إفريقيا. 

وكانت سلطنة مقديشو- في ذات الوقت- مقصدًا للمُهاجرين، لا سيما العرب منهم، ومن ثم استقرت بطونٌ عربية عدة بها، وتزاوجوا مع المحليين. 

وحسب بعض الدراسات الأثرية الحديثة Archaeological Studies بمدينة مقديشو، تم الكشف عن العديد من بقايا وأطلال المدينة، كما عثر على أعداد كبيرة من قطع النقود والأواني من الخزف الصيني، تؤرخ لحوالي القرنين (4-5هـ/ 9-10م)، ومما لا شك فيه فإن العثور على مثل هذه القطع الأثرية يؤكد حالة الازدهار الذي شهدته السلطنة في ذلك الـوقت، وكثرة من كان يتردد عليها من التجار الأجانب.

وتُعد رواية ابن بطوطة (ت: 779هـ/1378م) من أهم الروايات التي وردت في المصادر عن "سلطنة مقديشو" خلال حقبة القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، واسمه: (أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجى)، وهو المعروف باسم: ابن بطوطة (703–779هـ/1303-1378م)، وهو المولود بمدينة طنجة في بلاد المغرب الأقصى سنة 703هـ/ 1303م.

ولما عاد ابن بطوطة من رحلته الثانية إلى اليمن مرة أخرى، ثم ذهب إلى ميناء عدن قاصدًا ساحل شرق إفريقيا، ثم أبحر من ساحل اليمن عابرًا منها إلى بوغاز "باب المندب"، ثم ذهب إلى مدينة زيلع على الساحل الشرقي لإفريقيا، غير أنه لم يطق هذه البلاد ولم يطب له البقاء فيها، فركب البحر قاصدًا ساحل مقديشو. 

وقد قضى الرحالة ابن بطوطة حوالي خمسة عشر يوما من ميناء زيلع إلى مقديشو في البحر، وقال عنها ابن بطوطة في روايته: "وهي مدينة متناهية في الكبر، وأهلها لهم جمال كثيرة ينحرون منها المئين في كل يوم، ولهم أغنامٌ كثيرة، وأهلها تُجارٌ أقوياء، وبها تصنع الثياب التي لا نظير لها، ومنها تُحمل إلى ديار مصر وغيرهـا..".   وقد أُعجب رحالتنا "ابنُ بطوطة" بـ"سلطنة مقديشو" واتساعها وثراء أهلها، وأنها كانت تشتهر كمدينة تُجارية مُهمة على ساحل المحيط الهندي (أو بحر الهند)، وتطلق بعض المصادر التاريخية على ساحل مقديشو وما في جنوبيها من سواحل، اسم "بحر الحبش". 

ويذكر ابن بطوطة أن أهلها كان لهم طرق في التعامل مع التجار الأجانب، حيث كانوا أهل جود وكرم وحسن ضيافة، يقول: "ومن عادة أهل هذه المدينة (أي مقديشو) أنه متى وصل مركبٌ إلى المرسى تصعد الصنابق، وهي القوارب الصغيرة، ويكون في كل صنبوق جماعة من شبان أهلها، فيأتي كلُ واحد منهم بطبق مغطى فيه الطعام، فيقدمه لتاجر من تجار المركب، ويقول: هذا نزيلي، وكذلك يفعل كلُ واحد منهم، ولا ينزل التاجرُ من المركب إلا إلى دار نزيله".

ولما وصل الشُبان إلى قارب ابن بطوطة، قـال رفقته لهم إنه ليس تاجرا، ولهذا قالوا إنه بذلـك يكون نزيل قاضي المدينة، وذهب إلى القاضي: "فنزلت أنا وأصحابي وسلمت على القاضي وأصحابه، وقال لي: بسم الله نتوجه للسلام على الشيخ. فقلت: من الشيخ؟ فقال: السلطان..". 

وكان من عادة أهل مقديشو أنهم كانوا يطلقون على سلطانهم لقب: "الشيخ"، توقيرًا له، وكان من عادتهم الطيبة أيضًا أنه إذا جاء في مراكب التجار أحد العلماء، أو الأشراف أو الصالحين، فإنهم كانوا يأتون به لمقابلة سلطان مقديشو حتى يرحب به، ويكرم وفادته، وهو ما يشير بشكل واضح إلى تقدير سلطان مقديشو للعلماء واحترامهم. 

ثم يتحدث ابنُ بطوطة عن سلطان هذه البلاد، حيث يذكر أن اسمه: (أبو بكر بن الشيخ عمر) وهو من أصول بربرية، وكان يتحدث العربية، كما كان يتحدث لغة أهل مقديشو، أو كما يذكرها ابن بطوطة باسم: المقدشي، يقول: "ولما وصلت مع القاضي المذكور- وهو يعرف بابن البرهان المصري الأصل- إلى دار السلطان، خرج بعض الفتيان فسلم على القاضي فقال له: بلغ الأمانة، وعرف مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وصل من الحجاز، فبلغ، ثم عاد..". 

وأحسن السلطانُ إلى ابن بطوطة، وأمر بأن ينزل في ما يُعرف عندهم بـ"دار الطلبة"، وهي دارٌ كانت معدةً لطلبة العلم، وهي تقعُ بالقرب من قصر السلطان، ثم جاء الطعام لابن بطوطة من القصر، وكان يرافقه واحدٌ من وزراء السلطنة، وهو الموكل له استقبال الضيوف، وهو ما يُشير إلى حسن ضيافتهم ونظامهم في الحياة، ثم أخذ يتحدث عن طعام أهل مقديشو وأطباقهم المشهورة، وما تميزوا به من طعام، ثم أضاف قائلًا في حب أهل مقديشو للطعام: "والواحد من أهل مقديشو يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة..".

وظل الطعام يأتـي إلى ابن بطوطة من قصر سلطان مقديشو كل يوم ثلاث مرات، وهذه عادة القوم، وفي اليوم الرابع لإقامته- وكان يوم الجمعة- جاء قاضى المدينة وواحدٌ من الوزراء حاملين له هدية السلطان: "وكسوتهم فوطة خز يشدها الإنسان في وسطه، ودراعة من المقطع المصري معلمة، وفرجية من القدسي مبطنة، وعمامة مصرية معلمة، وأتوا لأصحابي بكسى تناسبهم..". 

ولعل تلك الإشارات التاريخية المُهمة تُظهر أن المنتجات المصرية كانت ذائعةً- بشكلٍ أو بآخر- في أسواق سلطنة مقديشو، خاصة الثياب والملبوسات. 

وفي هذا اليوم قابل ابن بطوطة السلطان، الذي رحب به بشدةٍ، وقال له بلغة العرب: "قدمت خير مقدم، وشرفت بلادنا، وآنستنا...". ثم خرج السلطان إلى صحن مسجد المدينة الكبير، وكان به قبر أبيه، فقرأ له، ودعا له ما طاب له من الدعاء. 

ثم أخذ ابن بطوطة في نعت مجلس السلطان والأمراء وكبار رجال البلاط، وكان ذلك في يوم الجمعة، حيث لهم عادات ومراسم يعملونها في هذا اليوم المبارك: ورُفعت فوق رأسه أربع قباب من الحرير الملون، وعلى أعلى كل قبة صورة طائر من ذهب، وكان لباسه في اليوم فرجية قدسي أخضر، وتحتهـا من ثياب مصر، وطروحاتها الحسان. وهو متقلدٌ بفوطة حرير، وهو مُعتم بعمامة كبيرة، وضربت بين يديه الطبول والأبواق والأنفار، وأمراء الأجناد أمامه وخلفه، والقاضي، والفقهاء، والشرفاء معه. 

وكان لسكان مقديشو مجلس ومراسيم، خاصة بمجلس السلطان في بلادهم، وتحديدًا في يوم السبت من كل أسبوع. وعن ذلـك الأمر يقول ابن بطوطة: "وإذا كان يوم السبت يأتي الناسُ إلى باب الشيخ (أي السلطان)، فيقعدون في سقائف خارج الـدار، ويدخل القاضي والفقهـاء، والشرفـاء، والصالحون، والمشايخ، والحجاج إلى المشور الثانـي، فيقعدون على دكاكين خشب، مُعدةً لهم لذلـك. 

ويكون القاضي على دكانة وحده.. ثم يجلس الشيخ بمجلسه ويبعث إلى القاضي فيجلس عن يساره، ثم يدخل الفقهـاء، ثم يدخل الـوزراء، ثم الأمراء، ثم وجوه الأجناد طـائفة بعد طائفة أخرى، ويؤتى بالطعـام فيأكل بين يدي الشيخ القاضي والشرفاء ومن كان قاعدًا بالمجلس، ويقصد القاضي والـوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات..".   وهذا هو اليوم الذي يجلس فيه القاضي حتى يحكم في أمور أهل هذه البلاد، وكان القاضي يقابل كل من كانت له مظلمة، أو شكاية من سكان هذه البلاد، وفي حالة أنه كان يوجد أمر جلل، فكانوا يكتبون فيه إلى السلطان (الشيخ) حتى يقوم بنفسه بالفصل بينهم أصحاب تلك الشكاوى.

 

عضو هيئة التدريس – الباحث في الشؤون الإفريقية   

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز