عاجل
الأربعاء 1 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الملكة والراقصة! (3/3)

الغربة الأولى 11

الملكة والراقصة! (3/3)

بعد الانفصال عاشت بديعة مصابني حياة أخرى: "على الرغم من الحب الذي جمعني به، أحسست بعد الانفصال أنني أُعتقت من الأسر، كنت طموحة جداً بشكل غير متناهي، وابتدعت رقصة شرقية خاصة بي وعُرفت باسمي.



وافتتحت صالة للرقص سنة 1929 سميتها "كازينو بديعة" في "ميدان الأوبرا"، وكان من رواد الكازينو من الأدباء والفنانين، والصحفيين، يتخذون من الحديقة مكاناً لندواتهم، ولقاءاتهم.

وكان الأديب نجيب محفوظ يقيم في حديقة الكازينو ندوة اسبوعية، كما كان الملك فاروق من الرواد الأوائل، بعد ما عاد من بعثته التعليمية في بريطانيا، طاب لها الاستسلام لنشوة الماضي، عبّت نفسًا، نفخت الدخان، احتوتها الرغبة في المزيد".

وتابعت: "خطوتي التالية، كانت تشكيل فرقة غنائية راقصة، ضمت أشهر مطربي ذلك الزمن. عملت فلوس كتيرة،  وحققت مكاسب مادية لا تحصى و تعد بالهين، و جهدي، و ثباتي، ومثابرتي. وأصبح مسرحي أهم مسرح في المحروسة".

وحست حسوة من فنجان القهوة، إمتصت شفتها السفلى، وصلني إعتزازها بنفسها: لقد وصلت أرباح المسرح الصافية في الليلة الواحدة، بعد توزيع الرواتب، و تكاليف السهرات، الى 50 جنيهاً،وده مبلغ ضخم آنذاك".

ولم تكتف بالمسرح، والغناء، والرقص، فراحت تفكر بالشاشة الفضية: "سنة 1939 أسست شركة "أفلام بديعة للإنتاج السينمائى"، وأنتجت فيلم "ملكة المسارح"، ما نجحش. و لأن التمويل كان بقرض من البنك، حجزت الضرائب على ممتلكاتي، فأغلقت الشركة، وإبتعدت عن الإنتاج السينمائي".

إلاّ أنها لم تبتعد عن السينما، فقد مثلت بعد "ملكة المسارح"، خمسة أفلام: "إبن الشعب"(1934)؛ "الحل الأخير"(1937)؛ "ليالي القاهرة"(1939)؛ "فتاة متمردة"(1940)؛  "أم السعد" (1946). 

داعبت الدموع مقلتيها، وأنا أسألها، كيف أنهت سنواتها في مصر، بعدما أبدعت فناً، نيِّفاً وثلاثين سنة. نفضت سحب الماضي، هي التي حفظت ما هو الأبهى، و الأنقى في الذاكرة، تمالكت نفسها.

وحكت: "بريق السينما زغلل عيون نجوم "كازينو بديعة"، خطفتهم الكاميرا. و قد زاد في أزمتي، ظروف الحرب و أثرها   وتأثيرها الاقتصادي و الاجتماعي، حاولت جاهدة، بعدما وضعت الحرب أوزارها، إستعادة مجد الكازينو ، إلا أن معظم البنات إللي علّمتهم، و المواهب إللي اكتشفتهم و ساعدتهم، إستهوتهم السينما: تحية كاريوكا، سامية جمال، وببا عز الدين. و تحول حتى المطربون الى ممثلين، محمد عبد المطلب ترك مواويله و أعطى وجهه للكاميرا، محمد فوزي ، صار Jeune Premier ،محمود الشريف لحق السينما و تلحين أغاني الأفلام، عبد الغني السيد، شكوكو، إسماعيل يس، أبو السعود الإياري ، عزت الجاهلي، فريد الأطرش و أسمهان أخته،   وغيرهم كتير ...". 

تصالحت ملامحها مع حزنها:

"كده، خسر مسرحي الإستعراضي نجومه، و مع كل ده بدأت مصلحة الضرائب تطاردني، و تطالب بديون قديمة لم أسددها، أو على الأقل لم أكن أعرف أنني لم أسددها! ضيقوا علي الخناق و هددوني بالحجز والبيع، و بدل ماتكون النهاية سعيدة زي الافلام، بقت نهاية حزينة ومؤلمة، وكان ناقص يحرمونى من كل ألقابي لا "ملكة الليل"، ولا "نجمة المسرح الاستعراضي الأولى".  

وعلى الرغم من "المصيبة" النكداء التي حلّت بها، ظلت عزيزة النفس، متعالية، قادرة، مقتدرة، لم تلن لها قناة، وما إنحنى لها رأس أمام أية قوة، وجاء من يخبرها أن ما يحصل هو دسيسة من المستائين منها في القصر، الذين يريدون إبعادها عن الملك، فسعوا بكل ما أوتوا من جبروت و يد طولى، للنيل منها، فنفضوا الغبار عن ملفات عتاق، وأمعنوا في التهديد والوعيد، و لم يستبعد هؤلاء أن يكون كل ذلك بتدبير من الملكة نازلي.

وجاء آخرون يوغرون صدرها ضد عدد من المتمولين الذي يستثمرون في المسارح ، فجعلوهم لها موضع الظَّنة، فهؤلاء يريدون إبعادها، و إنهائها، ليخلوا الجو لهم وحدهم، و قالوا... و قالوا... و حاكوا الحكايات، و زادوا و عادوا، و كانت الست بديعة لا ترد على ما تسمع، غير هيّابة، فقد استقُرَّ رأيها على العودة الى بلدها الأم، الى لبنان:

"قررت أن أترك الشهرة، والنجومية، وأصدقائي من الساسة، والميسورين من رجال المال و الأعمال، ونجوم المجتمع، بالفرار الى الوحدة، و العزلة، والمستقبل الغامض... مرغمة جمعت كل ما أملك سنة 1950، وكنت أعرف طيار إنجليزي من زبائن الكازينو.

ولبست زي راهبة من راهبات "مير دو ديو" الفرنسيات”de Dieu Mére La”، و بجواز سفر لفتاة أجنبية ملامحها تشبهني، سافرت معه بطائرة من مطار"روض الفرج " الجوي قبل إغلاقه. و وصلت لبنان عن طريق سوريا، و إشتريت مزرعة سنة 1952 و الأرض دي،  و بنيت اللي انت شايفه ده، و أصبح المحل مشهوراً، علامة من علامات "شتورا" على الطريق الى "زحلة" عروسة مدن البقاع". صفا لها المكث في "شتورا"، و إكتنفتها هناءة الحياة

وساد صمت،عادت الأركيلة الى الكركرة الرتيبة. ترقرق وجهها بهاء، و أنا أسألها عن تلميذتين، كانتا الأفرب موّدة الى قلبها، من بين الذين سطع نجمهم و إسمهم و تخرجوا بمسرحها. سألتها عن تحية كاريوكا و سامية جمال، و لم تدعني أكمل، أخذت ناصية الكلام، و تركت إبتسامة نشوانة على شفتيها:

"فوجئت بتحية و سامية مع الزبائن، لم يعرفاني بلا ماكياج وشعري الأبيض. إستحوذت عليهما  الدهشة من المفاجأة الحلوة، أسرعت باحتضانهما. و بعد السلام و الكلام، و سرعان ما إنضمت تحية و سامية الى زبائن المزرعة، يبعن تارة و يتذوقن لذة شطائر محشوة بالجبن أسخنها بيدي.

وذكّرتني تحية عندما كنت بحسمي على المسرح، عندما كنت أؤدي نمرتي علي المسرح و أبتسم للجمهور، فإذا ما حزت باب الكواليس أثناء رقصي صرخت فى مدير المسرح قائلة "البنت نعيمة أتأخرت ليه، إخصموا لها يوم "، ثم أعود إلي إستئناف الرقص  والإبتسامة العريضة تتمدد على شفتي. أما سامية جمال، فلولا كلمتى لتغير تاريخها كله، فقد قدمتها لي إحدى الصديقات، فوقفت أمامي ترتعد على نغمات الموسيقى.  و لا أاقول ترقص، فقد كانت الهيبة أقوى من ايقاع الموسيقي،  ورغم هذا تفحصتها بعين الخبيرة ، و قلت لها " ما تخافيش يا شاطرة أنت عندك إستعداد كويس وحققت الأيام نبوءة خبرتي ".

 أمضتا معي يوماً كاملا، رحنا فيه ننبش صور الماضي، فكانت تلك الصورة نسمة جميلة من الماضي هبّت علينا. أطعمت سامية الدجاج بيديها و راحت تحية تبيع " اللبنة " للزبائن، تودعهم و تستقبل الوافدين. ثم جلسنا في حديقة المزرعة نستريح، وأعددت لهن بنفسي أركيلة تنباك عجمي. أمضت تلميذاتي يوماً في صحبتى، ختمنها بقبلات كثيرة حانية ، ورحلتا بسيارة أقلتهما للمطار،  وكانت لحظة وفاء أسرونى و أثروني بها". 

تطربك بديعة مصابني، في حديثها مُلْحُ النوادر، لا تخرج واحدة منها عن طبع الطيبة، فهي طيبة القلب، تجعلك تلمس ذلك من ما تراه على وجهها، في عينيها، في كلامها الحلو، لم تحقد، و لم تكره، عاركت الدهر، ولقيت الكثير من مكائد الناقمين.

غنَّت فأطربت، رقصت فتمايل غصن البان، في عياقة الحركة، مثلت، فأضحكت، و أبكت، و مواسم البهجات ما كانت إلا لها.

"تعرف... " قالت بنيرة وضعت فيها كل ما عندها من عاطفة، وأكملت: "لقد عشت في زمن غير هذا الزمن، كانت الناس  فيه غير ناس هذه الأيام، و حاولت أن أحيا، لا أن أعيش، و شتان بين الاثنين."

تتبع بعينيك خطوات يدها على خصلات شعرها الابيض، تعاركت أصابعها مع خصلة شعر متمردة. تنهدت، كأنها تريد إخراج ما يعتمر في داخلها:

"جمعتني بالمغني و الممثل الفرنسي موريس شوفالييه، علاقة صداقة، كان ودوداً، طيب القلب، وفياً، كنت ألتقيه في باريس، كلما سمح الزمن. في ذكرى مولدي، ذات سنة، أرسل لي بطاقة معايدة كتب فيها ما لا يمكنني أن أنساه، وقد حفظته عن ظهر قلب".

أغلقت ذهنها عن كل فكر شارد، ضال، و راحت بلكنة فرنسية تستذكر ما كتبه لها موريس شوفالييه:

L’importance n’est pas d’ajouter des années à sa vie ; plutôt de la vie à ses années " ليس المهم  إضافة سنوات الى حياتك،إنما إضافة حياة الى سنواتك"، ولقد حاولت دائماً أن اضيف "حياة" الى سنواتي".

غصَّ الكلام في حنجرتها، مرت نسمة غنجت لها أوراق العنب، وإهتزت لها العناقيد، لوّحت الشمس بالمغيب، وأول الليل، وقفت، حملت عصاها، مدّت يدها، ودعتني، رأيت في عينيها تشوق الماضي، وهناءة الحاضر. هي نادرة زمانها، لا تفتح عين على مثلها، و كل ما أعرف أنني تركت قلبي عندها.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز