
ذكريات جدة

قصة: زينب علي علام
وقفت الجدة أمام الصورة المعلقة على الحائط، في أحد أركان البيت القديم، تتطلع إليها بشوق، أما الجد – صاحب الصورة – فيظهر بلباسه الريفي البسيط، وملامحه الجادة، التي لا تعبر مطلقًا عن طبعه الطيب، كما تقول جدتي، لكن لا بد للآباء من أن يظهروا بعض الهيبة لأبنائهم، فكان أولاده جميعًا يحسبون له ألف حساب، كما حكت لنا هي أيضًا.
كانت جدتي تعاتب جدي على طول غيابه، وكأنه يراها ويسمعها، تقول وهي تغالب دموعها:
جرى إيه يا بو محمد.
وحشتنا يا خويا.
كل السنين دي؟... بس عمري ما نسيتك.
فاكر زمان.

أول مرة شفتني فيها، يومها كنت رايح الكتّاب، وأنا بملا من الترعة، بصيت لي من بعيد وضحكت، كنت هتزحلج وأما جريت عليا تلحقني راحت القلة وجعت عليك غرقتك ودفاتر الأزهر غرقت هي كمان، يومها العيال قعدوا يجولوا ابن الشيخ حمدان وجع البت بدرية في المية... (تضحك).
ولما جيت تطلبني من أبويا، قام أبويا جاللي:
"مش هترتاحي وإنتي لوحدك في مصر بعيد عننا، لكن آني صممت عليك، مش عارفة ليه حسيت إنك نصيبي".
وأما سيبنا البلد وسكنا هنا جلتلي: يا بدرية دي مملكتك وإنتى هنا الملكة، تعملي ما بدالك محدش هيحاسبك، بس تيجى عندي وتفرملي، عارفة ليه؟
عشان مفيش ملكة بتمشّي كلامها على الملك أومال يبجي ملك إزاي؟!
كنت كبير جوي في عنيا ولساك لحد دلوجتي زي ما أنت برضه كبير.
وفاكر قعدتنا ساعة العصاري في الركنة بتاعتنا.
كنت أروح أحضر كوبايتين الشاي، وأنت تفتح باب البلكونة عشان الشمس تخش، وتشغل الراديو.
فاكر كنت بتقولي إيه لما الشمس تيجي عليا:
شعرك ده ولا جدايل دهب... (تضحك في خجل).
أحلى أيام عشتها معاك.
أنا جبت صورتك من جوه مخصوص وحطيتها هنا عشان تبقى جنبي على طول، حتى بعد ما فوتنا لسه نفس القعدة في نفس المكان ماتغيرتش، بس الواد إبراهيم ابن محمد ابنك، مش بيعرف يظبط الموجة زيك.
حقًا كنت أجد صعوبة في ضبط الموجة، وذلك لقدم الراديو، وإذا عرضت عليها أن تسمع من آخر أحدث ترفض بشدة، وتعلل بأن العيب فيّ وليس في راديو جدي القديم قائلة:
إيش جابك أنت للحاج إبراهيم شيخ لازهر (تقصد شيخ أزهري).
وفي هذا الموقف أصرت جدتي على ارتداء خاتم خطبتها، بعد أن طلبت منها أن أرسم لها صورة للذكرى بجوار صورة جدي، وفي نفس المكان الذي كان يجمعهما سويًا وقت العصاري، وشهد على كثير من ذكرياتهما الجميلة، وددت أن أكون جزءًا من هذه الذكرى برسمتي، وكانت المرة الأولى لي التي أجرب فيها هذا النوع من الرسم، لكنها أعجبت جدتي، وفرحت بها كثيرًا.