
قطار الشمال

قصة: علي صلاح
المحطة
الرسوم يا آنسة، يا أستاذ عليك دفع الرسوم، رسوم العبور يا سادة.
يرن جرس المحطة معلنًا وصول آخر قطارات الشمال لهذا اليوم، يعني هذا الجرس الكثير لسائقي الأجرة وحاملي الأمتعة ولمستقبلي أحبابهم في محطة القطار، ولكنه يعني تبدل الشقاء بالراحة لحراس الأمن؛ حيث تنتهي الفترة المسائية، ويبدأ الحراس في تبادل الأدوار.

محيي: متى سوف تتوقف عن سرقة السذج يا عمار؟، لا يوجد رسوم على عبور رصيف القطار.
عمار: نحن نوفر الأمن للركاب هنا يا صديقي، ولا يوجد أمن مجاني.
- افعل ما شئت يا عمار، تذكر ألا تقترب إطلاقًا من الرصيف السابع.
- تقصد رصيفًا غريب الأطوار، لن أفعل ولكن متى سوف تخبرني عن السبب؟
- ربما في وقت لاحق يا صديقي، اذهب إلى بيتك الآن لقد انتهت فترة العمل والسرقة.
المنزل
يرن المنبه على الجانب الآخر من السرير أنها الساعة السادسة صباحًا، يرن المنبه ثلاث مرات عادة قبل أن تقوم مريم بإيقافه، لتبدأ يومها الكئيب، ويبدأ يومي الذي لا يقل كآبة عادة بعد نصف ساعة. لكن المنبه لا يتوقف هذا اليوم يا ترى أين ذهبت تلك الكسولة اضطررت لإيقاف المنبه بنفسي. اليوم هو الخميس مريم استأذنتني بالأمس لزيارة أمها في الحقلانية، ستعود في الغد على الأرجح، يبدو أنني مضطر اليوم، على غير العادة، أن أعتمد على نفسي، وليكن، لقد كنت أقوم بكل أعمال هذا المنزل قبل أن تأتي مريم لتضع لمستها الخاصة على كل شيء.
لم يكن صباحًا بسيطًا كما كنت أظن، رحلتي الاعتيادية كل يوم بين الحمام والمطبخ الصغير وخزانة الملابس لم تكن سهلة؛ حيث اضطررت أن أحلق ذقني بماء بارد، وأن ألبس زوجًا مختلفًا من الجوارب، وأن أشرب قهوتي بلا رغوة؛ لأنني نسيت حقًا كيف تُعد القهوة التي أحب. وقفت أمام المرآة لأرتب رابطة عنقي وأتساءل: "يا ترى ما الذي يدفع مريم لتسخين كوب من الماء في كل يوم لحلاقة ذقني، وما الذي يدفعها لوضع زوج من الجوارب المتشابهة كل يوم بقرب الموقد حتى لا تبرد قدماي أثناء الخروج للعمل في كل صباح شتوي، وما الذي يجبرها على إعداد كوب دافئ من قهوتي المفضلة مع الكثير من الكلمات الدافئة كل يوم، رغم أن ردي كان باردًا دائمًا؟.. أتراها لاتزال تحبّني؟ نظرت إلى وجهي قليلًا في المرآة ثم هربت منه ومن أفكاري بكل سرعة إلى الشارع. من يحب عجوزًا قبيحًا ذا لسان سيئ وأخلاق أسوأ؟
شارع النهار
الغيوم تخنق السماء هذا الصباح، يبدو أنها ستمطر، المطر يزعجني دائمًا، إنه يأتي بكل ما أكره في وقت قصير: البرد، البلل، الرشح وقطرات الوحل التي تقذفها السيارات المارة بكل حقد على بنطالي. بالنسبة لمريم المطر سعادة دائمة، فهي تختلق الأعذار دائمًا لتجبرني على السير معها لبعض الخطوات تحت المطر، تبتهج مثل طفل مع قطرات المطر الأول. أما أنا، سحقًا لي حقًا، فأنا أقابل كل أفعالها الطفولية بكلمات التوبيخ والتحقير لأفسد لحظاتها السعيدة حتى يموت الطفل في داخلها، كما مات الطفل في داخلي منذ زمن. بدأ المطر فعلًا بالهطول على استحياء، ربما ليذكرني بأن عليّ تسريع خطواتي قليلًا لأصل إلى مكتب البريد أو ما يصح أن أطلق عليه مكان عملي.
مكتب البريد
وصلت المكتب في الوقت المحدد، الذي لا أتذكر أنني تخلّفت عنه يومًا مُذ باشرت العمل قبل سنوات. يومها كان مكتب البريد قلب المدينة النابض بالمشاعر، كانت الرسائل تأتي من كل مكان بكل الأشكال والألوان رسائل برائحة البارود من الجنود على الجبهات ورسائل برائحة المستشفيات من غرف الموت أو غرف الولادة. كانت هنالك رسائل أخرى أيضًا برائحة الورد يتبادلها العشاق. أما اليوم فقد تحوّل مكتب البريد إلى قلب ميت لا ينبض بأي شيء سوى تلك الرسائل الرسمية التي تجبر أجهزة الدولة المواطنين على استخدام البريد لإرسالها بهذه الطريقة، فقط، تضمن الحكومة ألا يموت مكتب البريد أو لا أموت أنا وباقي الموظفين الحمقى من الجوع. طلبت كوبي الثاني من القهوة لهذا اليوم، وجلست بقرب آلة إتلاف الورق، كما أفعل بالعادة، آه يا مريم، هل تذكرين رسالتي الأولى لك؟ أظنك تذكرين أنا فقط من ينسى ما يجب ألا ينساه. ليتك تعرفين يا حبيبتي كم مزقت من الأوراق قبل أن أصل ليلتها لنص تلك الرسالة، ثم كتبت سطرًا واحدًا فقط لكنه كان كافيًا؛ لتبدأ رحلتنا الطويلة: "تشرق الشمس ليبدأ يوم الناس، ويبدأ يومي حين ابتسامتك ."لا أنسى يومها كيف ابتسمت، لاتزال ابتسامتك جميلة يا مريم، لكنني توقفت عن إخبارك بذلك منذ تزوجنا، بينما لا أتوقف عن تذكريك بشحوب الخدين، وذبول العينين، وامتلاء البطن، وأشياء أخرى بين الحين والآخر، يا لي من رجل سيئ حقًا.
المنزل
العاشرة مساء. النوم يُصر على الهرب مني وسريري شديد البرودة والوحشة. استسلمت مؤخرًا للسهر وعدت إلى الصالون لأجلس قريبًا من الموقد بحثًا عن شيء من الدفء، متكومًا على نفسي مثل جنين. لم أشعر بمثل هذا البرد في حياتي، تحسست عظام ظهري البعيدة، وأنا أتذكر عناق مريم إذا شعرت بالبرد ليلًا، وكنت دائمًا ما أقابلها بإصدار همهمات التذمر، وإشارات الابتعاد، ولكني الآن أحتاج لعناقها كثيرًا، أحتاجها كثيرًا.
متى سوف ينتهي هذا اليوم لتعودي يا مريم، سأفرش لك طريق العودة بالزهور، سأعانقك عناقًا طويلًا، سوف أقبلك كما تحبين. كم هو موجع غيابك يا حبيبتي وكم هو بارد هذا المنزل!، سأعوضك عن كل شيء بعد عودتك سأكون شخصًا مختلفًا. شخص يحبك كما تستحقين، لن أنتظر الصباح يا مريم، سوف آتي لاستقبالك في المحطة، سأكون أول شخص ترينه في المدينة واقفًا ينتظرك مثل طفل صغير ينتظر عودة أمه.
المحطة
جرس المحطة المعذب يعود للرنين، يراقب الحارسان نزول الركاب من القطار القديم، وكأنه تقيأهم بعد دوار الرحلة. يناول عمار سيجارة لزميله ويقول:
ثلاث سنوات، وهو يقف في نفس الرصيف، كل أسبوع بحركته المضطربة ينتظر حتى ينزل الجميع، ثم يرحل وحيدًا، ما خطب هذا المجنون؟
يجيب محيي، بعد أن ينفخ دخانًا كثيفًا من سيجارته:
هل تذكر حادث تموز؟
- كارثة الجسر؟!
- بالضبط. كنت يومها حارس الرصيف، وكان الرجل الغريب يومها واقفًا على الرصيف السابع، كنت أنقل الأخبار للناس كما وصلتني:
لا وجود لأي ناجين، ويصعب التعرف على الجثث، ستقوم الحكومة بتعويض ذوي الضحايا.
جاءني يومها يسألني عن زوجته، فأخبرته بما حدث، لكنه لم يبكِ، لم يظهر أي علامات حزن. تسمرت عيناه في عيني لدقائق، ثم ذهب يسأل زميلي على الجانب الآخر نفس السؤال.
- ثم استمر يأتي إلى هنا كل أسبوع في انتظار نفس الرحلة، على نفس الرصيف؟
- لذلك يا عمار أرجو ألا تقترب أنت ورسومك من الرصيف السابع، مصيبة واحدة تكفي هذا المسكين.