عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

موت زهرة

رسم: كريم عبدالملاك
رسم: كريم عبدالملاك

اليوم هو الثانى لى ولعله الأخير فى ذلك المستشفى الكبير اسمًا وحجمًا، وحجمى به لا يزيد عن طبيب جراحة تحت التمرين. ذلك اليوم الذي لا أنساه ما حييت؛ لأنه طبع بجسدى ولم يخلف إلا لسانى وبعد معاناة.



 

ذلك اليوم التي جاءت بها شابة عشرينية نضرة الجَمال غضت الجسد يسبقها صوت أبيها الذي كان صوته غاضبًا ممزوجًا بالنحيب ملونًا باسمها (زهرة)، وخوفًا من فقدان تلك الزهرة الوحيدة ببستانه.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

حضرت محمولة على سرير بدت أشد بياضًا منه يعلو وجهها حُمرة الورد، ولكن طبع المشهد حُمرة ملابسها الممزقة التي صبغت باللون الأشد من حُمرة وجنتيها، أسرعوا بها إلى غرفة العمليات؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه شعرت لحظتها بمدى ضآلة تلك الحياة التي من الممكن أن تنتهى بلحظة بل أقل و، الألم الذي نتركه بمن يحبنا صدقًا، ونحن لا نشاهد تلك اللحظات، والتي فى أغلب الظن تروى لنا من الغير، لم يلفت انتباهى سوى ذلك الراعى فلم يكن هناك غيره يقف وحيدًا يتضرع بالبكاء تارة والدعاء تارة أخرى كان خليقًا أن يكون بطلًا لمشهد يُعبر عن الحب الصادق دون دوافع من أب لابنته.

بعد دقائق مرّت فى ذلك المشهد  كأنها مَلحمة أفزعت الجميع لدرجة أنى حينها تسمّرت مكانى، خرج طبيب التخدير يرمقنى فى استخفاف، وخلفه جميع من حضر طقوس الكهنة لإنقاذ أوراق تلك الزهرة، وأتبعهم كبيرهم؛ ليخبر الوالد أن الفتاة لم يعد لديها الكثير من الوقت، وأنها ولجت فى غيابات جُبّ ملعونة ظلمته بسبب النزيف الحاد؛ لأن الحادث أصاب أضلاعها بكسور شديدة نفدت وأتلفت جزءًا من القلب والتنفس بات صعبًا وبين دقيقة وأخرى سيتوقف وليس هناك ما يتم فعله. الأمرُ الآن خارج الإرادة البشرية الأمرُ متروك للسماء. 

نظر ذلك البستانى كالمتضرع لكبير كهنة المَعبد بالمحاولة، ولكن نظراته المتبتلة لم تُجدِ نفعًا، فالكلمات باتت أشدًا أثرًا من انغراز تلك الأضلاع فى قلب فتاته،  فالفتاة ستلاقى نهايتها أمّا هو فسيعيش طيلة عمره بجرح لا يشفى قال الطبيب كلماته بشىء من برود الجراحين الإنجليز قالها وانصرف فى اتجاهى ثم ربض على كتفى بيديه الرقيقتين، تمايل نحو مسمعى قائلًا: لا تقلق أو تخف هذا أقل ما سوف تقابل هنا.

لم أنتبه ما شغلنى هذا الألم الذي أعتم المشهد بالكامل. تركت تلك الحالة وبدأت أظهر شيئًا من القوة وقررت الدخول لتلك الحالة؛ لأرى؛ خصوصًا أن الطبيب أمر بإيقاف إجراءات العملية إذ رأى أنها ستكون بلا جدوى. كان الوقت بعد منتصف الليل والسكون يعم الأرجاء والأروقة دفعنى الفضول؛ لكى ألقى نظرة توقف النزيف، وكدمات أعلى الصدر، وجرح غائر لكنه متوقف عن الفوران وتم تقطيبه والفتاة ساكنة كليًا منتظرة المصير.

وسط هواء الغرفة البارد أثار ذعرى تلك الدمعة التي انسلت وكادت أن تسيل من طرف لحظها.

اقتربت  يدى تناجى ربها أن يكون ما أشعر به صحيحًا مسحت تلك الدمعة، فسمعت أنين يكاد لا يسمع  ينبأ عن شىء.  أسرعت خارج الغرفة متجهًا أبحث عن الطبيب المتجه إلى مكتبه لكن وقْع قدمى كان منخفض الصوت،  فالتقطت أذنى تلك الكلمات مع اقتراب نهاية درجات السلم كان صوته واضحًا على الرغم من همسه فقد كان  مطمئنًا أنه لا يوجد من يسمعه وهو يتحدث بهاتفه.  

-كل شىء كما تريد، الحالة جاءت إلى هنا كما خططت، وهى الحالة الوحيدة المطابقة لفصيلة الدم التي تريد أعضاءها.  

-    نعم أمرت بوضعها على أجهزة العناية المركزة، وسأقوم بحقنها  بمادة (الكورار المعدلة).

-    هذا ما سوف أفعله سأجعل الأب يشاهد احتضارها الوهمى. 

-حسنًا فى الصباح سيكون كل شىء قد تم، وسأخرج بدلًا منها الجثة التي سترسلها. 

-لا عليك كل شىء تحت السيطرة، ما عليك فعله بأسرع وقت الآن إرسال الفريق الذي سيسلم البديلة، ويستلم ما اتفقنا عليه  قبل بزوغ الشمس. 

كدت أن أصرخ ولكن تمسّكت وكتمت أنفاسى قبل أن يشعر بوجودى، نعم شعورى كان صحيحًا هناك خطب ما غير صحيح  لقد وضحت الرؤية كل شىء كان مدبرًا، شعرت بوخزة فى  كتفى أعقبه دفء غريب فالتفت مذعورًا "هامان" لأجد طبيب التخدير مبتسمًا وبيده حقنة لكنها فارغة أو أصبحت فارغة..

 

استفقت لأجد جميع من يعرفنى يحوطني شعرت وكأنى أحلم، أين أنا؟ ما هذا المكان؟ هل هذا ضوء الصباح؟ ولِمَ لا أستطيع تحريك جسدى الثقيل؟ لِمَ لا أستطيع النظر إلا للسقف؟ أسمع الجميع وأميّز الأصوت الحزينة من حولى ولكن، ماذا يحدث؟ وتلك الجريمة هل شعر بها أحد؟ هل تم إنقاذ الفتاة من براثن ذلك الكهل كبير الكهنة كما أسميته هو و"هامان" التخدير؟ أردت النهوض فلم أقدر، أردت الحديث فلم أستطع؟ لعلنى أحلم أو أصبت بالدوار أو ذلك بالتأكيد تأثير المخدر الذي تم حقننى به؟ قاطعت تلك الأسئلة صوت أميزه نَعَمْ إنه الجرّاح قاطع أفكارى المشوشة صوته ذو البَحّة المميزة  ممزوج بصوت غلق الباب قاطعتنى كلماته.

على الجميع ألا يقلق سنرى ما يمكننا فعله فى الأيام المقبلة، على الجميع الهدوء والدعاء له، أستأذنكم بالخروج حتى أباشر عملى. شعرت بدفء أنفاسه المحملة برسائل التبغ، تنبأت بقدوم شفتيه تقتربان من أذنى قائلًا:

 وبالأخير استيقظت أيها الجرّاح الذي أنهَى حياته بسبب فضوله وتدخله فيما لا يعنيه، أتدرى ما أصابك؟ سأخبرك إنه شىء بسيط طبيب التخدير كان قد أعد تلك الحقنة المملوءة بالكورار( ) للفتاة فوجدك بطريقه فحصلت على الجرعة أولًا وأنت كطبيب تعلم ما تسببه هذه المادة؛ خصوصًا إذا كانت مُعَدّة خصيصًا لما نقوم بعمله ما أصابك باختصار هو متلازمة المنحبس( )، فما سمعته ما كان عليك أن تعلم به وكان يجب أن يبقى سرًا ووجب أن يصير طى النسيان، ولكن لسوء حظك أنك سمعت ما لم يكن عليك سماعه، ستظل معنا الأيام القلية التالية لنتدبر أمرك ولو كانت نتائج اختباراتك ذات قيمة لبحثنا عمن يدفع ولكن بتَ بلا فائدة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز