عاجل
الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

ضبط زوايا

رسم: عبدالعال
رسم: عبدالعال

تسحب إيشاربها المزركش للوراء، تحرّر بعض خصلات شَعرها الحريرى، تشد عباءتها للأسفل وترفع نهديها للأعلى، قبل أن تختار الزاوية المناسبة من الرصيف بعد دقائق من الانتظار، تفرش بضاعتها من المناديل الورقية، وفُرَش الشعر والدبابيس، تتطلع فى مرآتها الصغيرة من حين لآخر، تتمنى وتنتظر.



يرفع طرف جلبابه ليفسح الخطى لساقيه القويتين، ويستعرض فحولته التي لا يملك غيرها، يختار زاوية الرصيف التي تجعله أقرب لسيارات مقاولى الأنفار، يفسح لنفسه مكانًا بين من سبقوه، يرفع طرف جلبابه أكثر، تظهر سمانته المشدودة بوضوح، يراقب سيارات النقل العابرة من هنا وهناك، يقضم شطيرة الفول، يتمنى وينتظر. 

ترغب لو تتوقف السيارات والمارّة عن حجبه عن عينيها، أعجبها منذ المرّة التي سمعته فيها يساوم السيدة الثرثارة التي جاءت لتختار حمّالين لرفع مواد البناء، صوته الجهور وجسده الممشوق، مهارته فى المساومة، وتصدّره المشهد كقائد يحمى حقوق فريقه، جعلتها تحلم وتتمنى، قاربت سنوات عمرها الوردى على الذبول، دون أن يروى الحب ظمأها، كل من جاء رحل بسبب فقرها، ولعلها اختارته لأنه مثلها، لا يحلم بالغد، فقط يتمنى أن يمر اليوم بسلام.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

يخرج كل يوم من حجرته الرطبة، حاملاً أثقالاً أكثر من المتوقع أن يحملها إذا جاد عليه النهار بحمولة أو اثنتين، لم ينل حظا من التعليم ولا الرعاية، منذ أن رحل أبوه تشتت هو وأخوته فى بلاد متفرقة سعيًا للرزق وللحياة، يمضى يحمل أحمالاً، لا أحلامًا.

تتأكد كل يوم من اختيارها للزاوية التي يمكنها أن تراه منها، وأن يراها إذا أراد، على أمل أن يلمح تطاير خصلاتها، وأن ترف عيناه بسمرتها اللامعة، أصبح لديها حلم تحلمه، أوصتها جارتها العجوز، بزيارة مقام أبى العباس، وصلاة الجمعة ثلاث مرّات متتالية فى رحابه "من زار الأعتاب ما خاب، اطلبى واتمنى يتحقق المراد من رب العباد" فى الجمعة الأولى كشفت رأسَها ودعت بأن يكون من نصيبها، وأن يكون لها رجلاً يحميها من طمع الرجال فيها، ويؤنس وحدتها التي تقرض أطراف قلبها، ونضارة جسدها بنهم كفئران مفترسة، وعلى باب المقام وقف أمامها شحاذ ضرير، مد يده إليها طالبًا الإحسان، منحته بسخاء، ناولها باليد الأخرى ورقة مطوية ورحل، تابعته وهو يخطو خطوات المبصر لزوايا الرصيف ومنحنياته، استبشرت خيرًا، أخفت الورقة فى حمّالة صدرها، وزغردت البشارة على وجهها.

لمح جسدها الملفوف فى ثنايا عباءتها، ورشقت عيناه فى الكشك الخشبى على زاوية الرصيف خلفها، سمع أنه لعجوز تسكن بجوارها لم تعد تحتمل مشاق العمل، كان الكشك مُعدًا لصنع الشاى والقهوة والساندوتشات الخفيفة لباعة السوق والمحلات المجاورة، فكّر لو أنها توسطت إليه عند جارتها العجوز ليفتحه من جديد، ويتقاسم الرزق بينه وبينها، ويتخلص أخيرًا من ثقل الأحمال وآلامها، أصبح لديه حلم يحلمه.

رفعت يديها وكشفت رأسَها، كانت الجمعة الثانية فى رحاب المقام، دعت أن يكون حقًا لا وهمًا أن عينيه لضمتا فى عينيها بنظرة طويلة، وأنه مَرّ بالقرب منها متعمدًا هذه المرّة، قابلها الشحاذ مادًا يديه، أعطته بسخاء أكثر، ولكنه انصرف هذه المرّة دون أن يعطيها شيئًا، فقط رفع صوته قائلاً "ما تبكى يا بن آدم على اللى تتحرم منه، ده ربك عالم باللى تتمناه وحافظ فى السما سرّه".. لم يسعها أن تفهم مغزى كلماته، لكنها استمرت فى توزيع الحلوى على الأطفال المحيطين بالمقام كما أوصتها العجوز، تأملتهم وطاف بها الحلم أنها ستأتى يومًا ما لتصلى الجمعة معه ومع أبنائها منه.  

فكّر كثيرًا قبل أن يتجرّأ ويخطو الخطوات القليلة بينهما من الرصيف للآخر، اشترى علبة مناديل ورقية بآخر ما تبقى فى جيبه، وابتسم لها وهى تناوله إياها "تسلم إيديك يا ست البنات"،  وربما لو وقف أمامها لثانية أخرى لانطلقت تبوح له بكل شىء، وحكت له عن غرفتها الصغيرة التي تعيش فيها بمفردها منذ أن تيتمت، وإنها ستجدّد طلاء الجدران المتآكل، ستجعله فيروزيًا بلون البحر، وستعلق ستارة زرقاء مطرزة بحبات من اللولى المفضض على الشباك، وفى آخر الغرفة ستعلق ستارة أخرى لتخصص جزءًا صغيرًا للموقد وأدوات المطبخ، أمّا الحمّام فقد ادخرت له مبلغًا لتركب السيراميك على أرضيته وجدرانه، وستختاره بلون الورد الذي رأته ذات مرّة مثبتًا على سيارة معدة لزفاف العرائس، كان لونه ما بين الأبيض والأحمر، وستختار غرفة نوم بنفس اللون، ولن تتنازل أن تزف إليه بفستان زفاف جديد، لم ترتده واحدة قبلها، فقد عاشت سنوات عمرها ترتدى بقايا الأخريات، وتتدثر برائحتهن، ولكن هذه الليلة هى ليلتها، وللفقراء أيضًا حق فى ليلة من العمر كله. 

اطمأن أنها ودودة، وحلوة اللسان على غير عادة بائعات السوق، وخطر بباله أنها ستقوم بمساعدته، فهى تقاسى مرارة الفقر مثله تمامًا، فكّر أن يستمر فى شراء المناديل التي لا يحتاجها أصلاً، والتي تحرمه من شريحة فول إضافية، وأن يجر طرف الحديث بينهما فى كل مرّة ، حتى يفتح بابًا لسؤالها عن الكشك وصاحبته، وربما إذا اطمأنت له يمكنها أن تقنع صاحبة الكشك المسنة بأن يتدبر أمره، ويفتحه من جديد، سيكون أقدر على التعامل مع الباعة وأصحاب الورش والسائقين العابرين، سيقدم لهم الشاى والقهوة والسجائر، وساندوتشات الفول والفلافل، وربما استطاع فيما بعد أن يقدم لهم ساندوتشات الجبن الرومى أو العسل والقشدة، ويصبح له رزق لا يعتمد على قوته، وشبابه الذي ينضب يومًا بعد يوم.

قابلته على باب المقام قبل الصلاة فى الجمعة الثالثة، هتف لسان حالها "مدد يا أبو العباس مدد"، حيّاها من بعيد وابتسمت له دموع الفرح فى عينيها، فى صلاتها بكت وفى سجودها دعت، وكانت صلاته سعيًا للراحة، ودعاء سجوده مستجابًا، التقيا بعد الصلاة على الباب، مَرّ أمامهما الشحاذ، لم يمد يده، ولم يقل شيئًا، فقط مَرّ أمامها كطيف عابر.

لم تعترض أن تمشى بجواره بضع خطوات على البحر، كانت خطوات طفلة جاءها فستان العيد بعد ليال من الانتظار، بكلمات مرتجفة أخبرها أنه يريد أن يتحدث معها فى أمر مهم، بحروف زغردت على شفتيها، قالت إن لها جارة عجوز هى بمثابة أمّها، لا يمكنها أن تتحدث فى أى شىء إلا فى حضورها، رَدّ بفرحة المنتصر أنه مستعد لمقابلتها من الآن، ضمت شمس نوفمبر الماكرة نظرة واحدة بثلاث زوايا قبل أن يحييها ويبتعد عابرًا الطريق، فى نفس اللحظة التي تختل فيها إطارات سيارة مسرعة، لم تضبط زواياها قبل التحرك، انحرفت لتخطفه من على بُعد خطوات من حلمه، وتنتزعه انتزاعًا من أحلامها، صرخت وهى تلمَح الشحاذ على الناحية الأخرى يبتسم، شدّت الورقة المطوية من بين ثنايا صدرها، فتحتها، قرأت حروفها وابتسمت بأعين دامعة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز