عاجل
الثلاثاء 30 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

الحكم بعد المداولة

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

اعتاد "أنور" أن يستيقظ قبل منتصف الليل، فطبيعة عمله تحتم عليه ذلك كل ليلة.



"أنور"، ذلك الشاب الثلاثيني الجامعي الذي عزف عن الزواج، بعد أن أصيب باكتئاب حاد عندما تركته محبوبته من أجل أن تظفر بعريس ثري أكبر منها بخمسة عشر عامًا، بضغط من والدتها آنذاك.

ومنذ ذلك الوقت كرّس جل وقته للعمل والحصول على المال، حتى وجد تلك الوظيفة كحارس أمن في أحد الملاهي الليلية؛ حيث إن بنيته القوية وعضلاته المفتولة ساعدته على ذلك، بخلاف حصوله على راتب كبير ساعده على شراء سيارة خاصة مستعملة وادخار مبلغ من المال.

من حين إلى آخر يذهب "أنور"، لزيارة والده الذي تزوج من امرأة شابة بعد وفاة والدته منذ بضع سنوات، فوالده الخمسيني ميسور الحال ولقد ترك لابنه الشقة التي نشأ وترعرع فيها، واشترى هو شقة أخرى مع زوجته الجديدة التي منعت زوجها من مساعدة ابنه بالمال.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

وكان الأب يعامل ابنه معاملة جافة؛ بالرغم من أنه وحيده، بسبب ضغط زوجته عليه وتأليبه على ابنه، ولكن كان يعطيه بعض المال من وقت إلى آخر، مما كان يُغضب الزوجة.

وفي صباح أحد الأيام الملبدة بالغيوم في يوم شتوي بارد ذهب "أنور" لزيارة والده، الذي فوجئ بتغيير مفاجئ من أبيه وقام بطرده من المنزل بسبب وشاية مغرضة من زوجة أبيه، واتهام باطل أنه يغازلها، وينظر إليها نظرات إعجاب، فهي تقاربه في السن، ولقد فعلت هي ذلك حتى لا تجعله يأتي إلى منزل أبيه مرة أخرى، ويحصل منه على المزيد من المال. 

أحس "أنور" أن الدماء تكاد تنفجر من رأسه، واسودت الدنيا في عينيه، وعاد إلى منزله يحمل الهموم والأحزان على عاتقه، وكاد أن يسقط مغشيًا عليه، فاتهام أبيه له ليس بالهين، وما أحزنه أن والده صدق مزاعم زوجته وروايتها الكاذبة. 

استلقى "أنور" على الأريكة فأمامه سويعات قليلة قبل أن يبدأ عمله بالملهى الليلي.

الأمطار لا تتوقف عن الهطول، وهو بالكاد يرى الطريق أمامه فالظلام دامس، رغم حركة مساحات الزجاج الأمامي للسيارة المتعاقبة بسرعة.

لقد تأخر كثيرًا عن عمله والطريق زلق ومحفوف بالمخاطر، لقد كسر حاجز سرعة المئة وعشرين كيلو مترًا في الساعة.

وإذ فجأة يرتطم بجسم غريب يطير أمتارًا في الهواء لأعلى، ثم يسقط مستقرًا في قارعة الطريق. 

توقف "أنور" على بُعد أمتار قليلة ليستطلع الأمر. 

نزل من سيارته مهرولًا وابتلت ملابسه بالماء. 

(يا إلهي) يرددها "أنور".

وهو لا يكاد يصدق عينيه. 

إنها جثة رجل مسن غارق في دمائه كان يعبر الطريق السريع إلى الجهة الأخرى.

كيف لم أره، كيف ظهر فجأة أمام السيارة، هل لهذه الدرجة شل تفكيري بسبب ما حدث لي في الصباح. 

(هكذا "أنور"، يحدث نفسه).

حاول "أنور"، أن يحركه، ولكن لا فائدة فهو جثة هامدة. 

ما هي إلا لحظات وقد تجمع حوله عدد من المارة، ولقد توقفت الأمطار فجأة. 

وضع "أنور" يديه على رأسه وهو مذهول، ولقد جلس أرضًا يبكي بحرقة من هول المنظر، غير مصدق ما حدث.

 صوت سارينة الإسعاف تدوي من بعيد؛ لنقل الجثة المغطاة بورق الصحف المبلل بماء الأمطار، وتبدو فقط القدمان ظاهرتين من أسفل الصحف، وبركة من الدماء حوله. 

(لعنة الله عليك يا زوجة أبي، ماذا فعلت بي حتى ينشغل ذهني وبالي عن الطريق).

هكذا كان يحدث "أنور" نفسه ولسان حاله يقول: "ليتني لم أذهب إلى العمل هذه الليلة". 

وصلت سيارة الشرطة كالعادة متأخرة لاصطحاب المتهم مكبلًا بالأصفاد إلى حيث المخفر (قسم الشرطة)، وهو منهار، وكان محاطًا بجمع غفير من المارة، خوفًا من هروبه قبل وصول الشرطة.

وأمام المحقق المتجهم تم استجوابه، موجهًا له عدة اتهامات، "القيادة بسرعة تجاوزت الحد القانوني داخل المدينة، والتسبب في القتل الخطأ، مع إجراء تحليل مخدرات للمتهم؛ للتأكد من عدم وقوع الحادث تحت تأثير تعاطي المخدرات فتزداد العقوبة".

تم الزج بـ"أنور" إلى النظارة مع اللصوص وعتاة الإجرام، في انتظار العرض على النيابة، بعد أن أقفل المحضر باعتراف المتهم بتخطي حدود السرعة والقتل الخطأ وشهادة الشهود.

وفي اليوم التالي، بعد عرضه على النيابة، وثبوت عدم تعاطيه المخدرات تم تحديد موعد محاكمة عاجلة. 

وفي يوم المحاكمة وقف "أنور" مرتديًا زي الحبس الاحتياطي الأبيض داخل القفص الحديدي لا يتمالك أعصابه، فلقد ضاع مستقبله، واستمع القاضي ومستشاروه إلى ممثل النيابة الذي شدد على تجاوز المتهم السرعة القانونية، معرضًا حياة الآخرين للخطر، واستمع القاضي إلى الدفاع الذي لا يملك أي دليل على براءة المتهم، فالاتهام ثابت عليه باعترافه، فقط بنى دفاعه على عبور الضحية من أماكن غير مخصصة لعبور المشاة، وصعوبة الرؤية بسبب تزايد هطول الأمطار. 

وفي الجانب الآخر يجلس أقارب الضحية ونظراتهم تكاد تفتك بالمتهم من خلف القضبان، في انتظار القضاء العادل، بينما يجلس والد "أنور" محاولًا أن يتمالك نفسه. 

ويشعر بالذنب تجاه فلذة كبده.

صمت رهيب يخيم على القاعة.

فجأة ينطلق صوت القاضي-عاليًا- يهز أرجاء قاعة المحكمة:

(الحكم بعد المداولة).

يصرخ الحاجب بصوت عالٍ 

(محكمة.....).

في هذه اللحظة العصيبة أحس "أنور" بيد تربت على كتفه بحنو الأم.

إنها "أم سعيد"، السيدة المسنة التي تقوم على خدمته منذ أن كان طفلًا صغيرًا، وأمه أوصتها عليه كثيرًا قبل موتها.

تقول له بلهجة ريفية:

(قوم يا ولدي تأخرت على الشغل)!

فرك "أنور" عينيه غير مصدق أنه لايزال مستلقيًا على الأريكة في منزله، بعد أن خلد إلى النوم.

وقد نجا من الحكم المشدد.

قائلًا لها مبتسمًا، بعد أن تهللت أساريره وتيقن أنه يحلم: 

(لا يا أمي لن أذهب اليوم إلى الشغل).

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز