
أسكنتكما فؤادي

قصة: محمد فخري
الزمان: مايو 1949م
انطلقت سيارة صغيرة مصرية الصنع، تشق شوارع محافظة "البحيرة"، متجهة نحو مدينة "كفر الدوار"، وحرص سائقها على أن يهدئ من سرعتها وهو يدخل المدينة قبل أن يتوقف بها أمام أحد النوادي، ويهبط منها في رشاقة، وهو يدندن بأحد الألحان الشهيرة لـ"محمد عبد الوهاب".
وفي صبر، ظل واقفًا ينتظر أمام النادي لدقائق عشر، وقد نصب قامته فبدا بزيه الرسمي الذي يميّز ضباط الجيش المصري شديد الوسامة والوقار، حتى توقفت أمامه إحدى سيارات الأجرة وهبطت منها فتاة جميلة الملامح أنيقة الثياب، منحته ابتسامة واسعة وهي تقول:

-هل تأخرت؟
هز رأسه نفيًا وهو يجيب بهدوء:
-بل أنا الذي أحضر مبكرًا عن موعدي عادة.
دلف الاثنان إلى النادي واختارا الجلوس معًا في ركن هادئ، وساد الصمت بينهما لحظات قبل أن تقطعه الفتاة بقولها:
-كيف حال عملك؟
أطلّت من عينيه نظرة حزن عميقة، وارتسم شبح ابتسامة على طرف شفتيه وهو يجيب:
-لا خير في عمل تحت إمرة المحتل البريطاني البغيض يا حبيبتي.
شعرت بالحزن يغمره فابتسمت له واحتضنت كفه بكفيها لتخفف عنه، لكنها لاحظت مشاعره كلها تتحول إلى مزيج من الحزم والصرامة، وهو يمد يده الأخرى إليها متابعًا:
-المهم.. احتفظي بهذه، فإما أن أعود لأستردها منكِ أو لا أعود أبدًا فتصير لكِ.
أفزعتها كلماته، فالتقطت الورقة المطوية التي ناولها إياها، وتطلعت إليها لحظات ثم هتفت في ذعر:
-ما الذي يعنيه هذا؟
وقبل أن يجيبها سمعت صريرًا عنيفًا ينبعث من خارج النادي، فاستنتجت أن مجموعة من السيارات قد توقفت أمامه على نحو يوحي بالعجلة، ورأت ملامح حبيبها تتجهم، لكنه ظل محتفظًا بثباته الانفعالي وهو يقاوم ليمنحها ابتسامة هادئة مطمئنة ويهمس لها في حنان:
-أحبك.
ظلت عيناها معلقتين به وهو ينهض من مكانه ثم يسرع بالابتعاد في خطوات سريعة، وتسارعت ضربات قلبها حينما اختفى عن ناظريها، ولم تكد تمر دقيقة واحدة حتى فوجئت بقوة عسكرية بريطانية تقتحم المكان، يصاحبها مجموعة من الضباط المصريين يفتشون المكان في شراسة، ورأت ضابطًا منهم يتجه نحوها ويسألها بصرامة شديدة:
-أين ذهب؟
واحتبست الكلمات في حلقها فلم تستطع نطقًا.
بعد عام..
جلس الشاب الذي كان يرتدي زي ضباط الجيش المصري في الموقف السابق فوق مقعد حديدي، وبدت هيئته مزرية بذلك الشعر المتناثر فوق جبهته، وخيط الدم الذي يسيل منها على وجهه، وملامحه المنهكة التي تبدو آثار التعذيب عليها في وضوح، وإن لم تختفِ منها العزيمة والإصرار اللذيْن يتميز بهما.
وبخطوات قوية، تقدم منه أحد الضباط البريطانيين وجذب مقعدًا ليجلس أمامه وهو يرمقه بنظرات قاسية، لكن الشاب لم تبدُ عليه ذرة من الخوف أو القلق حتى سمع البريطاني يسأله بعربية ركيكة:
-ها نحن ذا نلتقي بعد أن ظللت تنتحل عشرات الهيئات وتهاجم معسكراتنا بأسماء مستعارة عديدة.. أتذكر يوم كشفنا أمرك وأدركنا أنك ضابط خائن فحاصرناك في "كفر الدوار"؟
أجابه الشاب في اعتداد:
-ليست خائنًا أيها البريطاني، فأنا رجل مصري لا أنتمي إلا إلى تراب وطني (مصر)، وكل ما فعلته إنما قدمته عن طيب خاطر، ومستعد أن أقدم عشرات أضعافه حتى يتحرر وطني.
هتف البريطاني في سخط:
-ولكن زيك العسكري يفرض عليك الالتزام بالأوامر العسكرية!
أجاب الشاب على الفور:
-أوامر مِن مَن؟ إنكم لستم سوى محتلين لا سلطة لكم هنا.. إنني لا أتلقى أوامري إلا من قياداتي العسكرية المصرية، ولا أعمل إلا لخدمة الشعب المصري فحسب.
أشعل الضابط البريطاني سيجارًا وهو يعود لهدوئه قائلًا:
-إنها فلسفة المخربين المصريين! إنك عار على العسكرية يا هذا.. كان عليك أن تُدرك أنها مسألة وقت فحسب قبل أن تقع في قبضتنا.
مال المصري إلى الأمام وتألقت عيناه وهو يقول:
-أتدري لماذا اخترت "كفر الدوار" بالذات أيها البريطاني لأبدأ منها رحلة هروبي وكفاحي ضدكم؟ لأن هناك وقف رجل وطني شريف كتب التاريخ اسمه بحروف من نور اسمه (أحمد عرابي) يُقاوم وحده غزوكم لبلادي، بعد أن تخلى عنه العثمانيون كعادتهم وسلّموا أرض (مصر) لكم، ولم يترك سلاحه قط حتى قضى الله أمرًا كان مفعولًا فقضى ما بقي من أيام حياته بشرف منفيًا عن تراب وطنه.
وصمت لحظات قبل أن يُكمل:
-وثق أن (عرابي) الجديد قادم يا هذا.. وقريبًا جدًا.
ثم تراجع في مقعده وترك الضابط البريطاني يرمقه بنظرات شديدة الكراهية.
أغسطس 1952م
جلست الفتاة التي بدأنا بها أحداث القصة في شقتها فوق فراشها، وهي تقرأ من ورقة تمسك بها بين أصابعها، ولم تشعر بنفسها ودموعها تغرق وجنتيها لتنهمر فوق الفراش.
لقد كانت آخر ما كتبه حبيبها لها.
الحبيب الذي عاش حياته لأجل (مصر)، وكان واحدًا من الأبطال الذين مهّدوا لثورة يوليو.
ورغم الغشاوة التي تحجب الرؤية عن عينيها بسبب الدموع استطاعت أن تميّز الكلمات التي طالما قرأتها من قبل:
"حبيبتي الغالية..
لعلها المرة الأخيرة التي نتحدث فيها أو تقرأين فيها كلماتي، إن كان قدري الموت فإنني أختار الشهادة في سبيل الله تعالى وفي سبيل الحق دفاعًا عن تراب وطني بكل رضا، وأرجو يا غاليتي أن تذكرينني بالخير وسأنتظرك في موعد محتوم قدّره الخالق عز وجل يومًا.
أرجوكِ لا تحزني.. كوني فخورة وتمتعي بحياتك مرفوعة الرأس، فإنني واثق أن استقلال هذا الوطن الغالي صار أقرب من أي وقت مضى، فإما أن أحقق هذا الهدف أو أن يستكمل رسالتي باقي الزملاء الذين لن يتوقفوا قط قبل تحقيقها.
لقد أسكنتكما فؤادي.. (مصر) التي سكن عشقها قلبي منذ وعيت على الدنيا، وأنتِ يا حبيبتي منذ ألقى الله تعالى بحبك في أعماقي فتوهج لينير لي طريقي، وصرتما كل شيء لي في هذه الحياة.
عليكِ أن تستكملي حياتك وتذكري أن سعادتي بلقاء الله عز وجل شهيدًا لن تكتمل قط إلا حينما تكونين سعيدة مطمئنة حتى يحين اللقاء.
سأظل أحبك".
ومع آخر حروف الرسالة وجدت الفتاة نفسها تنتحب وتشهق بصوت مرتفع من شدة البكاء، وألقت نفسها على الفراش لتفرغ ما تبقى من دموعها، ثم اعتدلت والتقطت شيئًا ما بأصابع مرتجفة.
كانت ميدالية تحمل آية قرآنية مصحوبة بعلم (مصر).
وبصوت حمل كل شوقها وحبها هتفت الفتاة:
-ليتك بقيت لي يا حبيبي.. ليتك بقيت لي.
ثم التقطت نفسًا عميقًا من الهواء وتابعت في لوعة:
-لكنني راضية بقضاء الله رغم ذلك.. سأعيش لأحفظ هذا الوطن كما حفظته يا حبيبي.. أعدك.
وبعد دقائق من الشجن والانفعال، كانت الفتاة قد تمالكت رباطة جأشها تمامًا فنهضت من مكانها وأصابعها تقبض على الميدالية بقوة.
ستحفظ الوصية.
ومهما كان الثمن..