
عهد مشين

قصة: عفاف حسين
صوتُه قد اخترقَ الأسوارَ الأربعةَ فى حجرتى، جذبنى صوتُ هاتفى يصيح كأنه طفل يمسك بيدى حتى يخرجنى من شرود ذهنى الذي تملّكنى وأودَى بى إلى عالم مظلم لا آلفه، بصحبة قرين أعشقه، لا تزال عيناى هناك على تلك اللحظة التي كنا بها على شفا حفرة الفراق، فى حضرة ألم تلك الثوانى التي كانت يده تفلت كَفّى من عناقها، أرسم على ثغرى ابتسامات كاذبة، ابتلع غصّة الكدر فى حَلقى، دقات عقارب اللحظات مريرة تمر متثاقلة، صوتها ناقوس خطر يرجف قلبى، لكنه يرغم شفتَىْ أن تبتسما، تلألأت أمطارُ الجزع الذي عكّر سماءَ جوفى فى عينى، وآن موعد هطولها، فتقطرت وتناثرت على وجنتَىْ كأنها قطعٌ من الزجاج، تشق طريقها على خدِّى عابرةً إلى حيث التلاشى، العدم يلوح لى بين الأفق، لم أكن أوَدّ أن يأتى الشتاءُ وتهطل الماسات فى ذلك الوقت، حينها وددت لو أننى ابتعدت قبل أن يخر ضعفى صريعًا أمامَه، بينما ما كان منه إلا أن يدير ظهرَه لى دون إلقاء كلمات وداع، يا لقسوته حتى تراتيل الهجر لم يتلُها علىَّ، ماذا فعلتُ أنا؟ عقلى قد عاد وانتبه إلى لون الجدار الذي تحتضن عينى جزء منه صغير، ها هى دموعى تنسكب بغزارة؛ أحسَست بلهيب يحرق وجنتَىْ، فأتت نسمة باردة قد أخمدت ثورانه، مددت يدى لأمسك بهاتفى الذي أزعجنى صراخُه، صوتى كان ساحرًا للغاية لو سمعتنى حينها فلا أعرفنى:
- مرحبًا.
صوت أجش قرأ علىَّ:
- أنت سمية أليس كذلك؟
على الفور أجبته وأنا أقتنص السَّكينة والهدوء:
- نعم.
عاد يردد:
- شقة 4 الطابق الرابع شارع المتحولين أليس كذلك؟!

تسلل الشك إلى قلبى بعد أن انتبهت إلى نبرته، وبدأت أتساءل إلى نفسى بأسئلة مألوفة؛ لكنه كان فطنًا لما جال فى خاطرى، فسارعنى:
- أنا عمُّك عبدالرحمن يا سمية، ألم تتعرفى إلىَّ من صوتى.
سكنت روحى وتهلل وجهى متناسيًا ما كان يمليه عليه العقل من أحزان، انكشفت الغيمة عن قلبى ورددت:
- فلتسامحنى أيها العم الطيب، اشتقت إليك كثيرًا.
أجابنى:
- أسامحك إذا وافقت على طلبى.
اندهشت كثيرًا مما سمعته، لم أسألنى عن كينونة طلبه، لكن ما أشغلنى هو المأزق الذي أسقطنى به، ماذا أفعل إن لم أحبّذ ما يريده!.
خيّم الصمت للحظات ثم عدت إليه وأنا عازمة أمر القبول، وحين هممت بالحديث كان هو قد سبقنى:
- تذهبين معى إلى دار الأوبرا، هناك حفل لفرقة موسيقية ذات سيمفونيات لا تقاوَم.
لعب العَمُّ على وتر حسّاس أعشقه، فى حب قبلت طلبه، كنت على الموعد أنتظره أمام مرآة خلف باب الشقة، غادرتها مسرعة إلى الخارج حين سمعت صوته من الأسفل ينادى كما اعتدته دائمًا، كسول لا يحبّذ الحركة وكان هذا سببًا لمعاناته الطويلة مع الأمراض بسبب السمنة المفرطة، كنت أنزل عن الدّرج وصوت الجزمة السوداء فى قدمى ذات الكعب العالى يضج المكان ويكسر صمته المهيب، بعض من خصلات شعرى الأسود الناعم متوسط الطول قد حجبت عن عينى اليسرَى الرؤية فتأهبت لإرجاعها إلى ما كانت عليه، ها أنا قد وصلت إليه، لا يزال محتفظا بطربوشه الأحمر رُغم أنه قد انتهى كما احتفاظه بابتسامته الجميلة وتهلل وجهه حين يرانى.
تلك اللمسة الحانية والقُبلة المطبوعة على يدى فقدتهما مع رحيله إلى طنطا، التف مشددًا قبضته اليسرَى على راحتى اليُمنَى، سرنا سويًا متجهين إلى دار الأوبرا على بُعد امتدادين فقط، شعرت بروحه تكاد أن تطير من شدة فرحه، لكننى أخمدت فضولى.. عاد صوته لكن تلك المرّة كان مختلفًا عن ما سمعته:
- ها قد وصلنا.
على الجهة اليسرى منّى كان موقعها، تعجبت ولم ألتزم الصمت حينها:
- كيف وصلنا إليها بتلك السرعة؟! إنها تقع على الجهة الشرقية لكنها...
لم يلق اهتمامًا إلى حروفى المتقطعة، أسكتنى الضوءُ الأزرق الذي كان مختفيًا خلف ستارة سوداء قد عبرتها إلى الداخل، على مرمَى البصر تجلس الفرقة تعزف ألحانها ويسلط عليهم الضوء الأبيض، لم يترك لى منفذًا لسُؤْلِى عن خلوّها من الحضور، كان يقودنى وكنت أتبعه دون انتباه، عقلى قد سلبه مَظهر الفرقة بينما تعزف، أجلسنى بجواره ورحت أسبح وفقًا للأشرعة التي تنثرها أنامل العازفين، شعرت بالنعاس وكأنها تلقى على مسمعى ببعض من الأصوات الممزوجة بحبات منوّم.. أيقظنى صوتٌ داخلى ينبهنى إلى ثقل روحى:
- كأن روحك قد خرجت عنك يا فتاة.. إلى أين هى ذاهبة؟
نظرت إليه حين تحدّث، شعرت أن صوت الموسيقى قد أخفض حين هَمَّ بالتفوُّه، أشياء مريبة تحدث حولى مثيرة للقلق، أمْ أنا أضَخّم من قدر الأمر بينما هو لا شىء:
- ما رأيك فى الموسيقى يا فاطمة.
بصوت دَبَّ الذعر فى أرجاء مخرجه:
- أنا سمية ولست بفاطمة.
اكتفى بالنظر إلىَّ متبسمًا، تعقبت نظراته التي أوقعت بصرى على هيكل أعلمه صدق المعرفة، إنه الرجل الذي خذلنى، وباع مَحبّتى، وركب أول قطار مغادرًا مملكتى.. تبادر إلى ذهنى أنهما قد اتفقا على ذلك معًا، لكن سرعان ما عدت أكذب؛ لأن مَن يرحل لا يعود وإلا لِمَ رحل؟، فارقنى بجل إرادته تلك الفكرة لم تجعلنى أطمئن إلى ما جال فى القلب من كونها مفاجأة وعهد جديد بالبقاء،، قررت أن أشغل فكرى وناظرى عنه، فالتفت إلى العَم أسأله:
- صحيح لم تخبرنى يا عم متى عدت إلى هنا؟
بابتسامة عريضة أجاب:
- انا لم أعُد من طنطا، أنا لا أزال هناك.
أيقنت أن هذا الرجل قد أصيب إمّا بالجنون أو الخرف ولا يفطن إلى ما يخرج منه، فمازحته قائلة:
- وإن كنت كذلك، فمَن يشاطرنى أطراف الحديث؟
أجاب:
- فارق جسده الحياة قبل أن تلتقى به فى تلك اللحظات المتشبثة فى مخيلتك بأنها لحظات الوداع.
تاهت روحى وتخبَّط عقلى وتشتت وعيى من قوله، ونطقت بكلمات معدودة:
- أجننت أنت أمْ معتوه أنا لأصدّق ما تقول.
- كونى فقط ثاقبة النظر، وتجلى إلى مجتمع الأرواح، عودى إلى الوراء وقارنيه مع الآن.
لم أشعر بى حينها، شلت أطرافى عن الحركة وذهنى عن التمييز، لكننى لمست صدق قوله فلم يكن الذي أمامى هو نفسه الذي ودعنى.. عزمت على البوح لكن العَم لم يكن موجودًا، تحيرت:
- إلى أين ومتى ذهب؟
لكن جاءت استجابة المحسوسات، وإجاباتها على سُؤْلى أين اختفت الفرقة بأن حل الظلام على حين غرّة، لم أعلم حينها هل علىَّ الصراخ أمْ الهروب! لكن أين وكيف المَفر؟ ظللت على المقعد أفكر هل هى أرواح أمْ أشباح؟.