عاجل
الإثنين 29 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

القرية الملعونة

رسم: عبدالمنعم البطاوى
رسم: عبدالمنعم البطاوى

‹رأيت عبلة اليومَ تطير فوق سماء القرية›!.



صرخ الرجل المجذوب عاليًا وهو يدور بين أرجاء القرية ويلف كل شوارعها، لم يصدقه أحدٌ وهو يحكى عن عبلة التي رآها تطير فى سماء القرية فجرًا. كان يرتدى جلبابًا قصيرًا ممزقًا يكاد يكشف عن عورته، شعره ملفوف لم يمسَسْه مشط منذ شهور. ما يقوله مستحيلاً إلا لو كان حلمًا، والحلم بات بعيدًا عن قرية لا ينام أهلها.

منذ شهور والقرية لا تنام، يجتمعون كل مساء للدعاء لرفع اللعنة عنهم بلا فائدة، تبكى النساء ويحترق الرجال عجزًا يناشدون ربّهم من أجل ساعة نوم؛ بل نصف ساعة. ولكن غضب الله وقع عليهم، فاللعنة فردت أذرعها فى كل البيوت، فباتت القرية الظالم أهلها ملعونة من السماء.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

لأسابيع طويلة يجتمع الأهالى ليلاً يجربون وصفات كثيرة للنوم، نفدت الأقراص المنومة من صيدليات القرى المجاورة، انتقل بعض الأهالى إلى قرية أخرى ليتخلصوا من لعنتهم فتطاردهم إليها، ويخشى أهل القرية الثانية من سخط الله عليهم فيطردونهم من رحمتهم.

‹عبلة كانت ترفرف مثل الملائكة بثوب أبيض›.

عاد المجذوب يهتف عاليا. كان هذه المرّة صوته أعلى، ينادى الناس ليصدقوه.

‹عبلة حيّة ترانا، تنظر إلينا من السماء وتضحك فرحة، ثأر الله لها منا أصبحنا مثل الوباء نمشى سكارَى ولا نموت أبدًا. ليتنا نموت جميعًا›.

عبلة فتاة جميلة عاشت فى القرية سنوات طفولتها وشبابها، عملت ممرضة بعد تخرُّجها فى المعهد، كانت شديدة الحُسن، يتقرّب إليها رجال القرية طالبين وُدّها دون فائدة، وكانت النساء تشتعل غيرة منها.

حتى الرجال المتزوجون طلبوا الزواج منها دون رجاء، فالفتاة كانت لها خطط أخرى، ولم تحب أبدًا أن تكون الزوجة الثانية، اجتمعت النساء للتخلص منها، ذهبت واحدة لدجال ليحرقها بعمل لا يخيب، ولكن الخطة لم تنجح، فالفتاة قريبة من ربّها تحبه ويحبها، كان النور ينبعث من وجهها، تحب العجائز وتساعد المرضى، ولم تفكر يومًا فى أذية أحد، ذنبها فقط أنها جميلة مرغوبة من الرجال.

وفى ليلة مرّت عبلة من الشارع فلاحظت امرأة خرقاء من نساء القرية ارتفاع بطنها، جمعت النساء على عتبة بيتها، أخبرتهم بما رأته، استمر الخوض فى سيرتها لأسابيع، الكل يقول إن عبلة ‹حامل› فى الحرام، ولا يعرفون مَن هو الأب.

لم يسأل أحدٌ عن حقيقة هذا الكلام، حتى الرجال مع الوقت ومع وسْوَسَة زوجاتهم باتوا يصدّقون هذا الحديث، توجهت الأعين إلى بطن عبلة فى كل مساء عندما تعود من عملها، حتى صرخت فيهم امرأة يومًا قائلة: 

خلصونا من هذا العار واقتلوها وادفنوها.

وفى هذا النهار الذي كانت فيه ذاهبة إلى العمل اجتمع أهل القرية حولها، وجّهوا لها التهم، سَبّوها، لعنوها، ظلت الفتاة تبكى والاتهامات تتكاثر حولها، والأصوات تخنقها، لم يسمح لها أحدٌ أن تنطق بكلمة واحدة، استمر نحيبها، وعلت الشماتة وجوه النساء.

قذفتها النساء بأحذيتهن، وألقى الرجال عليها الطوب والحجارة، ظلت الفتاة تدمى وتبكى بعد أن سقطت أرضًا، حاولت الهرب دون جدوى، واستمر الرّجم حتى فاضت روحُها إلى بارئها.

وقتها تعالت زغاريد النساء، واجتزت امرأة شعرها الطويل بمقص حار وألقت به بعيدًا، وحزن الرجال على هذا الجسد الناعم، حتى إن واحدًا منهم قال متحسرًا: 

‹والله خسارة فى الموت يا عبلة›.

نظرت له زوجته زجرة وحمّرت له عينيها فارتعش خوفًًا، فصرخت المرأة فيهم: 

ادفنوها دون صلاة عليها فالفاجرة لا تستحق شيئًًا.

ووارَى التراب جسد عبلة، وجاء المساء ليخرج الرجال والنساء فى الشوارع صارخين إنهم يرون وجه عبلة أمامهم ولا ينامون.

ظلت النساء تبكى وتولول يومًا بعد يوم وليلة بعد ليلة، وفقد الرجال الأمل فى النوم الذي جافاهم، وعرف البعض منهم ما حدث، فالحقيقة واضحة.

‹الله ينتقم لعبلة.. ليتنا نموت جميعًا›.

عاد المجذوب يهتف، والناس تمشى وسيقانها تهتز لا ترَى أمامها. أجساد هاوية لا تقدر على الحياة ولا تعرف يمينها من يسارها، يأكلون القليل ولا يعرفون نهاية قصتهم، يسألون الله كل ليلة الصفح، ولكن بؤسًا لقوم يَظلمون.

خرج الرجال والنساء فى الشوارع ينصتون للمجذوب، يهزون رؤوسهم، ليتهم يعودون للوراء، ينظرون جميعًا للسماء فلا يرون شيئًا، يعلو صوت البكاء، ويصرخ المجذوب عاليًا، وعبلة هناك بعيدًا تسمع بكاء قرية لا ينام أهلها.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز