عاجل
الثلاثاء 30 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

امرأة تتمرد على ظلها

رسم: عبدالعال
رسم: عبدالعال

كلما تقدّم بها العمر، تترسب بأعماقها العدوانية والحذر من جمیع الرجال، حتى وصل بها الحال أن حددت مجال دراستها وعملها، وهى تبحث عن السُّلطة والقوة التي تمكنها من الأخذ بثأرها من جمیع الرجال. 



اعتقدت أنها قد وجدت ضالتها حین قُبلت فى كلية الشرطة. واجتهدت فى دراسة القانون، هدفها أن تكون نصيرة للمرأة من موقعها كضابط شرطة دارسة للقانون، تحميها من الاستغلال.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

لم تكن تدرى أنها انجرفت نحو متاعبها. كانت تصوّر لها مخيلتها أن كل امرأة تخرج من بيتها للعمل، یمكن استغلالها فى لحظات حاجتها من قِبَل  مرضَى النفوس. ربما ما سمعته فى حكايات بعض الناس مجرد أمثلة بأبسط الحالات الاجتماعية، وتفشى الفساد فى المجتمع. عند أول مواجهة لها وهى تمارس مهنتها، كانت صدمتها مزلزلة أن وجدت نفسها بمواجهة بلاغ ضد امرأة متهمة بالسرقة. شعرت بالضياع، وتنبّهت إلى أن الفساد ليس، بالضرورة والواقع، قاصرًا على بعض جنس الرجال! 

وبدأت الحوادث والقضايا تتوالى حولها وهى بین صراعها وقناعاتها بعدوانیتها للرجال، وبین وجْه آخر لبعض النساء اللواتى يتفنن فى ساحة الجريمة والفساد، ربما أكثر من الرجال! وكثيرًا ما كانت تهرب من القضایا التي يُدان فيها رجل بالسُّكر والعنف ضد المرأة. تتراءَى أمامَ ذاكرتها تلك الطفلة التي تجلس على حِجْر جدتها التي تحكى لها كل لیلة أحجية، فترَى ذلك الغول الذي حكت عنه جدتها فى أحاجیها یُخرج من تلك الزجاجة رائحة كريهة تزعجها، ينزوى بها أبوها فى غرفته كل لیلة.

 

ویتبدل حاله من رجل هادئ الطبع، طيب القلب، إلى غول مُحمر العینین، يهمهم بعبارات مبهمة یصعب علیها سماعها أو فهمها بوضوح؛ وفى بعض الأحيان تكون واضحة، تتسم بقبيح السّب والسّخط على أمّها التي لا تجاریه. وكثيرًا ما تسمع همهمة غبنها وبكائها، فتسرع لتندس فى حُضن شقيقتها الكبرى أو جدتها، تحاول الاختباءَ من ذلك الغول.

 

كانت كل لیلة تستيقظ من أحلامها وكوابیسها متشنجة وخائفة، تنتظر شروق الشمس لتتسحب من فراشها، وتفتح باب الغرفة وتختلس النظر، وتسترق السمع؛ لتتأكد من أن الغول قد ذهب وعاد أبوها لطبیعته بكل هدوئه وحنانه، وتذهب إليه وتحتضنه قبل أن یخرج، وتذهب هى لمَدرستها. 

صوّرت لها مخيلتها بأن الغول یشبه كلب خفير المَدرسة بفمه المحشو بالأسنان، وأذنيه الكبیرتین؛ وكانت بینهما عداوة كبیرة، فهو، كلما رآها، نبح علیها محاولاً الإفلات بعنف وشراسة من قيده لينال منها. وكانت تتخيل أن للغول صوفًا أسودَ یشبه صوفَ القطة السوداء الماكرة التي تتسلل إلى مطبخهم وتسرق الطعام وتلعق اللبن. وكم تمنت أن تكون لدیها قوة (الشاطر حسن) الأسطورية، الذي طالما حكت لهم عنه جدتها؛ لتقتل ذلك الغول القبيح بغرس الشوكة فى مخه لتنقذ أباها من براثنه. وكثيرًا ما كانت حيرتها وخوفها دافعَين لتسأل نفسَها .. هل غول الزجاجة يأتى كل ليلة لكل بیوت الجیران، وبيوت ندیدات المَدرسة؟! ولماذا يأتى به أبوها إلى البیت؟! ألا یخاف علیهم منه؟! 

لم تكن الطفلة تبوح بما فى نفسها لأى أحد. ولم تتعد اسئلتها دواخلها، ولم تجد لها أى تفسیر. 

أفاقت من شرودها على ضجيج أحد الرجال جىء به مخفورًا متهمًا بضرب زوجته وإهانتها، وهو يجادل أحد الضباط ليبرر فعلته. شعرت بالغصة تجرح حلقها. وكانت، منذ لحظات، تسیطر على أفكارها تلك الطفلة المعذبة الغارقة فى دراما ما عانته فى طفولتها البريئة.

 

استأذنت فورًا رئيسها للخروج بحجة أنها مريضة. خرجت وفى أعماقها إصرار بأنها يجب أن تخلص ذاكرتها من تلك الطفلة التي ستفسد علیها عملها وهمّتها وذكاءَها المهنى بين زملائها.

 

ولكنها، كلما مرّت بها أحداث، أو قضیة مرتبطة بالعنف، أو التحرّش الجنسى ضد المرأة، أو تعاطى الخمور، ضعفت ورحلت بذاكرتها إلى تلك الطفلة، وهربت من محیطها. تعبت من معاناتها وهى تحاول أن تتمسك بقناعاتها وعملها. ولكنها كانت تشعر دومًا بالفشل والإرهاق النفسى والذهنى، وتدرك صعوبة استمرارها فى هذا العمل.

 

فقدمت استقالتها لرئيسها دون تردد؛ لتجد لها مخرجًا من مواجعها، رُغم محاولاته إثنائها عن عزم الاستقالة، ولكنها لم تتراجع. وبدأت بالبحث عن ملاذ مهنى آخر ينتصر لقناعاتها التي شوش عليها احتكاكها- من موقعها- بمجتمع الجريمة من باب أوسع. كانت ضائعة بین رغباتها أن تعیش حیاتها طبیعیة، وبین غفلتها وانتباهتها لسلوك المجتمع الذي تعاملت معه من خلال عملها السابق.

 

وأخيرًا، قادتها رحلة البحث إلى إحدى الجمعيات التي تعمل فى مجال حقوق الإنسان وتطوير المجتمع فانتسبت إليها لدعم نشاطها، وصراعها ضد العنف والجريمة والتحرّش والفساد. ووجدت ذاتها كما أرادت فى هذا العمل الدقيق النبيل. كانت تقدم المحاضرات التوعوية، وتُعد وتتشارك ورش العمل المتخصصة لتوعية وهدى أفراد المجتمع، وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم، دون تمييز بين المرأة والرجل. استغرقها هذا التوجّه، والعمر يمضى بها وهى تمارسه بتفانٍ ونجاح. 

وكثيرًا ما كانت أمُّها تُحدّثها عن رغبتها أن تراها زوجة وأمًّا لها أسرتها المستقلة، فتلتزم الصمت وتتظاهر هربًا بالانشغال. يكفى ما عاشته وهى بَعد طفلة؛ صورة أبیها وهو يتلبس غول الزجاجة ذات الرائحة الكريهة، ودموع أمّها الصامتة الحارقة، وخوفها من ذلك الغول وهى تُهرع مرتعبة وتعبة لتدفن رأسَها فى حِجْر شقيقتها؛ وأحداث مؤلمة عاشتها، وحكايات مخزية سمعتها، كانت تردعها وتدفعها أكثر للتمرّد على ضعف الأنثى فى أعماقها.

كانت فى قرارة نفسها تتساءل عن تجربة أمّها .. كیف احتملت جحیم لياليها الكئيبة الموجعة مع أبيها- يرحمه الله ويغفر له- وتحملته بكل ذلك الصبر والجَلد؟! كانت تبرّر دوافع استسلام أمّها بمثالیات تجد فیها بعض الراحة لنفسها، بأنها ربما كانت تجاهد للحفاظ على أسرتها وأبنائها؛ وربما لأن أباها، من دون تأثير الخمر، هو إنسان آخر يستحق كل هذا الصبر والاستسلام. وكان یراودها هاجس یخیفها.. هل، إذا تزوجت، ومرّت بها مثل تلك الظروف التي تحملتها أمّها، ستكون مثلها صبورة ومستسلمة، مَهما كانت التبريرات؟

لم يكن ينقصها الجَمال والثقافة والذكاء والكياسة فى التعامل، والذوق الرفيع فى أناقة هندامها. كانت مَحل اهتمام كثير من الرجال الممتازين، ولكن خوفها وهواجسها وذكريات طفولتها المؤلمة، كانت تمنعها من الوقوع فى حب رجل قد يمتهن كرامتها، أو تُرزق أطفالاً قد تعجز عن غرس وتوطيد القيم والمبادئ والفضائل فى نفوسهم، مثلما فعلت أمّها معهم؛ ومثلما سعت هى مخلصة بالمحاضرات وورش العمل فى محاولة ترسيخها فى المجتمع، وهى ترى كثيرًا من الأسَر تنهار وتتفكك، رُغم حرص كثير من الآباء والأمّهات على أبنائهم من بعض رفقة السوء، وحمايتهم من مجتمع حديث يُخشَى عليه من مَخاطر وحش التكنولوچیا الهائل وتطوّر وسائله، وسيلة المتدفق بشكل دراماتيكى حاد ومتسارع، يتسع ويتغير ويتنوع ويؤثر وجهه السلبى البشع فى سلوك البشر، وأساليب الجريمة والاحتيال والفساد والإفساد. 

وهكذا، كانت تصد كل رجل یحاول التقرب منها، حتى أفنت زهرة شبابها وهى تلهث خلف العمل وصراعاتها وقناعاتها. وكلما مرّت بها لحظات سمعت فیها طفلاً ينادى أمّه، یهتز كیانها بقوة، فتصحو فيها غريزة الأنثى، وفطرة الأمومة، و.. ليت الزمان يعود إلى الوراء، ولیت كان لها طفل من رحمها ینادیها "أمّى"!  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز