عاجل
الأربعاء 1 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

أُمنية

رسم: هبة عنايت
رسم: هبة عنايت

 دفعت "أًمنية" باب الدار, ودخلت علينا المَندرة, كنا نشرب الشاى بعد العصر, كنت جالسًا على الدكة, والعمّات والأولاد على الحصير على الأرض.



 قالت:  "ياسر" ..أنا عاوزاك تقدم لى فى الثانوية العامة منازل.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

هى الأولى على الأولاد والبنات فى المدرسة التي كانت مضيفة, وقسموها إلى حجرات بالحَجر والطين وسقفوها بالجريد, وأسموها مدرسة إعدادية.

قالت: أنا أجيب لك الشهادة والدوسية ..وتقدم لى منازل ..وأذاكر فى البيت وأروح الامتحانات بس.

قلت: إن شاء الله.

أنا لا أعرفها, لا أعرف حتى ملامحها, فقط ألمحها سمراء نحيلة, أبوها ابن عم أبى, كل الناس حولنا أبناء عمومة أبى, بيتهم فى آخر شارعنا القصير الضيق, كل الشوارع ضيقة وقصيرة ومتعرجة.

قالت أمها: أجيب من وين؟

قال معلموها : خسارة ..البنت شاطرة متفوّقة ..لها مستقبل.

أبوها يعمل جناينى فى فيلا, ويرسل نقودًا قليلة.

قالوا إنها صارت تخرج من بيتهم حافية وبغير شال, وتعدو فى الشوارع حتى تصل الشارع الرئيسى, والناس تعيدها, وإن إخوتها ضربوها وحبسوها فى حجرة فى آخر البيت, وجاءوا لها بالشيوخ, وإنها كانت تصيح) ياسر قدم لى ثانوية منازل)، وقلت والله لا أعرفها .. لم أتحدث إليها أبدًا.. .لم أنطق حتى باسمها .. لم أقل لها) أزيك يا أمنية), سمراء نحيلة ..لا تلفت نظر أى أحد.

قال أخوها : كفاية الإعدادية ..زى كل البنات.

أخوها صديقى كنا نتبادل الكتب .. القصص والروايات, ونتحدث عن أفلام السينما، وكنت أزوره فى بيتهم, كان يحدثنى عن المدينة الكبيرة العاصمة, وعن الجامعة وعن سكن الطلبة وعن زميلاته فى الكلية, وكان يقول إنه ينتظر أن ألحق به فى العام القادم, كنت فى الثانوية العامة.

 كان ماهرًا فى طلوع النخل يجنى البلح ويقلم الجريد, ويجنى ثمار المنجة, كان يقضى الصيف كله فى العمل, ليجمع مصاريف الدراسة.

وكانت تعجبنى بيضاء رشيقة, عيناها عسليتان ورموشها طويلة, لا أحتمل أن أنظر لها طويلًا , أخوها يلعب معى الكرة فى مركز الشباب بعد العصر, كنا دائمًا فى فريق واحد, أهيئ له الكرة ليضع أهدافًا, كنا ثنائيًا هجوميًا مُرعبًا, قبل المغرب نَسبح فى النيل, نغسل أجسادنا من تراب الملعب ومن عرَق اللعب, بيضاء رشيقة تعجبنى, ولم أخبرها ولم أخبر أى أحد, كنت مدركًا أنها لن تنتظر, قالت بعد الإعدادية سأبقى بالبيت مثل كل البنات, لن يوافق أبى أن أكمل تعليمى, وأنا لا أريد.

العمة قالت:  إيه بينك وبين البنت أمنية؟

تستدرجنى فى الكلام, وأنا لا أعرفها, لا أعرف حتى ملامحها, سمراء نحيلة لا تلفت نظر أى أحد, قلت ربما لأنى فى الثانوية تعتقد أننى أستطيع مساعدتها.

يأتى أبى إلى البلدة يوم الجمعة, كى يطمئن على أمّه وإخوته وأرضه ومصالحه, ويتسامرون مساءً فى المندرة, ماذا قالوا له؟..  جعلوه ثائرًا ومُصرًا على عودتى معه للمدينة. قال) أنا مش عاوز مشاكل .. بكرة ترجع معى).

كان القطار يبتعد والبلدة خلفه كتلة من الظلام يبتلعها الجبل, وأبى بجوارى يغلق عينيه يحاول استكمال نومه, وقد أصَرّ أن أعود معه إلى بيتنا فى المدينة. قال) أنت عامل روميو..  بتعاكس البنات.. أنا مش عاوز مصايب), وأدركت أنها أفسدت عطلتى , وكل عطلاتى القادمة ستحاصرنى الشكوك والمراقبة, وقطار الفجر يقتحم المحطات الصغيرة, والشمس تظهر ببطء ..  تفرش ضوءها باستحياء على البيوت المتناثرة على الجبال وعلى المزارع الكثيفة.

أتذكر كل ذلك الآن, وأنا جالس على الكرسى على رصيف المحطة, بجوارى زوجتى تحمل ابننا الرضيع, وابنتاى تلهوان على الرصيف, عائدون بعد زيارة البلدة, وأراهُن بالعشرات منتظرات قطار الفجر مثلنا, ذاهبات إلى الكليات, يتبادلن الحديث أو المناقشات أو الضحكات, بملابسهن المدنية الجديدة.

ولم أجرؤ أبدًا على السؤال عن "أمنية", ولم يحكِ لى أى أحد عمّا حدث لها, لكن طيفها مازال يطاردنى, ونداؤها الذي لم أسمعه يرن فى أذنى.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز