
عصير الليمون المثالى

لم يكن أمامى خيارٌ مع الألم الذي فرضه علىّ ذنبى سوى أن يكون ألمى نبيلًا مترفعًا وليس ألمًا مُخدرًا ضائعًا.. ألمًا أصنع منه أملًا وليس مجرد شعور مؤنب أريح به ضميرى، حتى أستطيع أن أواصل البقية فى حياتى.
لقد أدركت متأخرًا أن متعة لحظة الذنب تتراءَى وكأنها العسل وماهى إلا سُمّ دُسّ فيه خلَف وراءَه مرارةً ظلت كالعَلقم فى حَلقى طوال حياتى متمكنة من كل خلية فى جسدى وروحى حتى تُبتُ إلى الله.

فلقد ألقى علىّ هذا الذنب الليمونة الأكثر مرارة، لكن التوبة حوّلتها إلى ثمرةٍ ناضجةٍ جاهزةٍ لإعداد عصير مثالى للغاية.
لعلك تتساءل ما هو ذاك الذنب الذي فعل بى كل هذا؟ ما هى تلك الخطيئة الأكثر مرارة؟
لن أخبرك بذنبى، فلن أهتك سترَ الله علىّ ولن يفيدك بشىء معرفته، لكن ما يفيدك حقًا هو ما سأخبرك به حيث حالى معه وطهرى منه وراحتى بعد هجره.
دعنى أخبرك أولًا كيف تُعد عصير الليمون المثالى؟
لا تتعجب؛ فما أشبه حكايتى مع ذنبى بإعداد كوب من العصير.. وبالأخص الليمون.
لقد عوقبت بذنبى كليمونة مُرّة كانت تزداد مَرارةً كل يوم، ومع ذلك لا أستطيع الاستغناء عنها ولا عن عَلقمها.
وعندما ندمت وأدركت مدى المرارة التي أغرقت حياتى، قررت أن أستفيد من هذه الليمونة، أن أحوّل المرارة إلى حلاوة حقيقية يتذوقها قلبى أولًا.. حلاوة التوبة.
بحثت عن سكينٍ حادٍ لأقطع به تلك الليمونة، ولكن الشرط الحقيقى الذي لن يخبرك به أحد للحصول على العصير المثالى هو: أن السكين لن يقطع الليمون فقط؛ بل يجب أن يُجرَح جزءٌ منك؛ يجب أن تنزف، ليس ذلك النزيف الذي ينتج دمًا، فذلك هو النوع الأسهل، ولكن يجب أن تنزف ندمًا وحَسرةً ولوعةً.. تنزف كراهيةً لتلك المتعة الزائفة وذاك الذنب المُدمر.
لذلك فحدّة السكين ليست رفاهية؛ بل ضرورة واجبة لكى تُخرج كل شائبةٍ قد يتركها الذنب بداخلك مَهما كانت صغيرة.
فى الحقيقة لست أنا من اقتطع الذنب بسكينى الحاد؛ بل هو من مزقنى أولًا بنصله البارد.
مزّق روحى وقلبى وكيانى.. حياتى وعائلتى.. وكل مَن وما أملك.
فاحذر.. لأنك كلما تأخرت فى تقطيع الليمون التصقت بك مرارته، ليس لآخر عمرك فقط؛ بل وستذهب معك إلى آخرتك.
وبَعد أن نضجت الثمرة تمامًا وصارت جاهزة لإعداد كوب مثالى من العصير، حانت مرحلة التطهير.. سـتضيف الماء على الليمون المُقطَع ليذوب به وتقل مرارته.
وكذلك اغتسلت أنا بالماء فتوضأت وذهبت إلى صلاة ركعتين أبث فيهما إلى الله ألمى وندمى، وأقتطع على نفسى أمامه وعدى بعزمى على عدم العودة لذنبى.
فى كل وضوءٍ لكل صلاةٍ تقل مرارة الهَمّ فى قلبى، وكأننى أغتسل من أحزانى وكأن الماء يسقط علىّ فيداوى جروحى وآلامى.
رددت المَظالم لأهلها؛ فالله لا يسامح فى حقوق العباد إلاّ أن يتنازل عنها صاحب الحق، وأنا لم أعد أتمنى سوى أن يغفر الله لى ذاك الذنب اللعين الذي أذلنى وأسرنى لسنين.
الآن حصلنا على مزيج من الماء والليمون نستطيع أن نطلق عليه مشروبًا.. ولكن ينقصه ما يجعله مثاليًا مُحببًا.. ما يحليه ويذهب بمرارته إلى الأبد.. ينقصه السّكّر.
لم أتأخر هذه المَرّة ولم أتوانَ وسبقت شيطانى بخطوة، حتى لا يضيع كل ما بذلته ولأنهى بإتقان ما بدأته وعزمته.. فوزعت السّكّر.
نَعَمْ، سُكّر.. بالأدق نوع مميز منه.. استثنائى هو فى مَظهره وجوهره وأثره.
كان لزامًا علىّ أن أجد طريقة أنهى بها هذه القصة الحزينة بنهاية سعيدة تليق بنعمة الله على قلبى بالتوبة، لأشكره وأتودد إليه، وأطفئ للأبد ما قد يتبقى من نار الذنب فى روحى.
لم أجد خيرًا من الصدقة مسكًا لختامى؛ وفى الحقيقة أنا لا أتصدق على الآخرين؛ بل أتصدق على نفسى لعل الله يغفر لى.
ما قلبى سوى خريف أذنَب فتساقطت كل أوراقه، ثم صار ربيعًا مثمرًا بعد توبته يتمنى أن يعوّض كل ما فاته طوال وفاته.. فكل ما عاشه فى حياته مع ذلك الذنب لا يمكن أن يُطلق عليه حياة.
فاليوم هو يوم ميلاده الحقيقى..
اليوم أنا أجلس فى عربةٍ مختلفةٍ أنظر إلى الأمام وأرتشف قطرات منعشة من عصير الليمون المثالى.