
الباراسيكلوجي

قصة: علي عمار السعيد
كان يقضم قطعة الملبس ويتلذذ بها، عاشق الحلوى.
لو خُير بين قطعة حلوى وأمه لأختار قطعة الحلوى دون تفكير..!
أمه، معصوب رأسها, أمامها إناء تحضر فيه خلطة الأعشاب التي نصحتها بها الست العجوز (أم دلال):

_ حبة من الشذاب, حبة مسك, حبة قسط الهندي.
حبة من السدر، حبة زيت زيتون.
تنقعي الواد في ميتهم, وبعدها ترقيه وتنيميه.
بالفعل قامت الأم بنصيحة (أم دلال) بدقة متناهية، حتى لا تخطئ، فلا تأتي الخلطة بجدوى.
نقعت ابنها – رغمًا عنه – في ماء الخلطة ومن ثم رقته ولكنه أبى النوم، فدعت الله أن يكشف عنه ما حل به من سوء وأن ينام.
جَريت ولهثت وراء الأطباء، حتى صارت محل استشارة لمن يريد أن يعرف عنونًا لطبيب، أو يسأل عن أشطرهم طبًا.
قدمت قرابين الدموع ومعها النقود على عتبات الحسين والسيدة.
حارت فيما حل بابنها!
الأطباء عجزوا عن التشخيص، والعرافين المشايخ أكبر ظنهم أنه مس.
الأطباء: يمشي على العلاج دا وتجبيه تاني الأسبوع الجاي يا ست.
"المشايخ, والعرافين": الرقية والأعشاب.. والكاشف ربنا يا حاجة.
ذات يوم جاءت خالته لزيارتهم، تطمئن عليه، وتسأل أمه عمّا أودعتها من أدعية وتوسلات للحسين بشأن شعرها الذي يتساقط. كادت أن تقرع وتصبح صلعاء:
- شوفتلك البُشرى أمبارح يا أم محمود مع أذان الفجر.
تنظر لأختها وتكمل: والنبي كنت طاهرة، نمت على وضوء.
لم ترعها أختها أدنى اهتمام لبُشرتها وأحالت النظر لابنها، تحدق فيه وهو ساهم مصوب أحداقه على كوب الماء الزجاجي الموضوع أمامه على طاولة السفرة, في حين خالته كانت تقول:
شي الله يا حسين.
مدد يا سيدنا.
ابنك حاله هيصلح على عتبة السيدة.
ما تبخليش على جيرانهم (تقصد المتسولين على باب مسجد الحسين والسيدة).
مضت ساعة من الزيارة.
وقبل أن تخرج خالة محمود اقتربت منه ونظرت فيه باستعطاف ولثمت على رأسه:
ربنا يكشف عنك ويحميك.. قادر يا كريم، ومحمود مازال صامتًا محدقًا في كوب الماء.
قبل أن تدلف من باب الشقة عائدة حيث كانت، خرج من صمته قائلًا:
شعلان العجلاتي ابنه غرق.
ألتفتت مشدوهة ثم نظرت تجاه الصبي لبرهة ثم أعادت النظرة لأمه في دهشة وخرجت تقول: ربنا يكشف عنك يا ابني
مرت الأيام ومضت الشهور وتحدث عن نفسه عيد الربيع بزقزقة العصافير على فروع وأغصان الشجر المخضر.
شم النسيم, يوم المنتزه عند الفلاحين في الغيطان وفي البحار, وعلى عادة الجنيه – في عرف أهل هذه البلدة – أن تأخذ عريسًا لها في شم النسيم.
وحقًا لم يمر عيد الربيع بسلام..! وقد نصبت مجامع اللطم والعويل في بيت شعلان العجلاتي.
ما الخطب؟ ابن شعلان العجلاتي غرق في البحر. كان هذا حديث القرية.
ومرت الأيام وآل البحث- بالمراكب ومحترفي السباحة من شباب البلدة على الغريق بالخيبة والحزن؛ لتظل الخرافة يقينًا في أذهان الأجيال القادمة (الجنية تأخذ عريسها في شم النسيم).
هل ترد الجنية ما أخذت؟
لا..!
في عزاء الغريق ثرثرت خالة محمود بنبوءته:
أعدم شعري دا (أمسكت بطرف ضفيرتها ألتي لا تزيد على شبر) ابن أختي أتنبأ أنه هيغرق.
في البلدة لم يهتموا بأمر النبوءة يخالون محمودًا أنه ممسوس وبه هلوثة. لكن أمه بدورها بدأت تراقبه من قريب وبعيد, تلاحظه, وتقربت إليه بالكثير من الحلوة ونوعت منها. زادت من عطاياها؛ فبدأ يفصح عمّا يستره. كشف لها عن أمور يفعلها.
أعلن عن بعض حقائقه.
شيء من خوارقه.
ذهلت أمه أي ذهولٍ!
رأت من أفاعيله عجبًا!
هل هذا مس؟ لعله مس!
بهذا سألت.. وهكذا ظنت بابنها.
في أول أمره تنبأ بغرق ابن شعلان العجلاتي، وها هو يجذب كوب الماء إليه دون أن يمسكه بيده.
يا للهول!
وزاد أكثر في كشف حقائقه في طرح خوارقه.
أخبر أمه ذات ليلة وهي تدثره تحت لحافه:
_ ليه ما اخدتوش تار جدي؟
حادثة مضت منذ عشرين عامًا، بل إنه سر لا يعلمه أحد سواها. من أخبره بشأن هذا السر؟
بأفاعيله تلك, زاد من حيرة أمه!
لا تدري.
أتنقعه أكثر في خلطة أم دلال, أم تستشيرها في خلطة أخرى تأتي بفاعلية عن تلك الخلطة، أم تبتعد بابنها عن الخلطات والأعشاب وعن أم دلال نفسها وكل الناس؟
(كأنه ولي ناشئ)
هكذا أخالته أمه؛ فكتمت سره عن الكل.. خاصة خالته التي لطالما تقسم وتحلف بشعرها حتى صار حلفها وقسمها باطلًا لانعدام وجود ما تحلف به.
أدعت صلاح حاله حتى عاد خاله من عمله في مصر فأخبرته عن خوارق ابنها الغريبة وأفاعيله العجيبة.
حدثته عن نبوءة غرق (ابن شعلان)، وما كان يفعله ابنها.
لم تكن قصة الولد غريبة حد الإدهاش عند خاله كما أمه، إنما رأى فيها ما كان يسمع عنه من حالات تماثله, سمع عنها من معالج سلوك في مصر, إلا أن أفاعيله الأخيرة: من سحب الكوب وجذبه دون لمسه, والأخبار عما مضى.. كان هذا محل الدهشة والعجب.
نصح الخال الأم أن يصحب معه الولد؛ حيث عيادة هذا المعالج:
- متقلقيش يا أم محمود، وخير بإذن الله.
- ابقى طمني على الواد.
رحل الولد بصحبة خاله؛ حيث عيادة المعالج في مصر، ومرت الأيام وانفضت الأسابيع، ولم يأتِ الأم نبأ عن أمر ابنها.
وهناك حيث كان يعمل خاله في مصر (مدينة نصر) (رجل أمن) تحت لوحة بلون سماوي نحت عليها (المركز الدولي لعلاج السلوك والتوحد)، كان يلتف حوله أناس من هم زملاؤه ومن هم يسكنون العقار الذي يحرسه، يحاولون أن يستنبئوا أمر ما حدث لابن أخته حتى جاء أحدهم، وقال:
- مين قالك إن الراجل اللي أخد ابن أختك صاحب المركز، دا واحد كان بيجي المركز وهو عالم في حاجة اسمها الباراسيكلوجي، وسافر من شهر أمريكا.