عاجل
الخميس 2 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

أمـــل مؤلــم

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

نظر إليها والداها وهى مستلقية أمامَهم يتصل بجسدها المنحول أسلاك كثيرة مرتبطة جميعها قسرًا بالمعدات الطبية الأخرى.



وسلك آخر ما فُتئ يلعق إصبعها بنهم متباهيًا بلونه الأحمر منذ أكثر من ستة أشهر مضت، لم تعرف حينها لِمَ رَضِيَتْ واستسلمتْ لهم؟ وهناك مجسّة تلتصق بصدرها الذي كاد أن يذوب ويضمحل معه ما تبقى من ثديها الواهن.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

أمّا يداها الجافتان اللتان تغذيهما الحُقن المؤلمة والتي تظن فى قرارة نفسها لا تغذيها سوى بجرعات من الألم والأمل الباهت ليس إلا. بحجة إدخال محلول وريدى يساعدها بينما تشعر هى بأنه يمص حياتها ويهبها للأجهزة التي تخدع أهلها وطبيبها فيتوقعون الشفاءَ وينسونها من الدعاء فى غمرة كل ذلك.

منذ اعتقالها هنا وهذه الأجهزة تطن وتصدر صفيرها وتزمجر متى ما أرادت العبث بباقى هدوئها، وكما أوشكت على الاستسلام لموتها المحتوم والمُضىّ صامتة تصرخ الأجهزة رافضة وتصدر صافرتها للأطباء وطاقم التمريض أن هلموا لإنقاذها.

وما هى إلا لحظات حتى يتهافت جميع طاقم الأطباء والمسعفون حولها ويقولون إنهم معها وبكل الغدر- بعد ذلك- يبدأون فى صعقها بالكهرباء ليعيدوها مرغمة إلى الحياة بكل الحب الذي لديهم.

"يا إلهى ماذا أفعل، وأين المفر...؟؟

لا أريد من الحياة سوى الموت وهم يريدون لى الحياة…

هكذا تمنيته سرًا بعد إنجاب طفلى الخامس.

لكن الموت راحة ولا أحد يريد راحتى".

تقول لنفسها هذه الروح يكفيها أنها عاشت واحدًا وأربعين عامًا بطفولة عذبة ضحكة، ولزواج روحه الحب وأساسه الإخلاص.

لكنها تعبت هكذا ببساطة وصارت تؤمن بمقولة الشاعر المعرى  "تعبٌ كلها الحياة فلا أعجب إلا فى راغب فى ازدياد".

لذا بعد الطفل الخامس أيقنت أن شرك الحياة ولعبتها هذه لن تنتهى…

نعم.. الكل يطلبها والداها العجوزان يحتاجانها لتطل عليهما مرتين كل أسبوع، وعملها مع أسرتها وأطفالها يستنزفان كل طاقتها والمساء تسهر فى المطبخ لتعد أكل الغد، وما بعد المطبخ غرفة النوم وتلك قصة أخرى…

انتبهت أن عَجَلة الحياة تطحنها وفى النهاية تصير جيفة على قيد الحياة منزوعة الروح، فكرهت مستقبلها المظلم وحياتها الرتيبة ذات المسؤولية التي ارتضتها، لا أحد يرحمها أو يسأل عن الدفء الذي غاب بين عينيها..…

شعر زوجها بشىء وسأل الأطباء الذين قالوا إنه اكتئاب ما بعد الولادة..... أمر طبيعى..

-لا، لا، ليس طبيعيًا، رفضت ذلك التبرير لطريق الموت البطىء..

- طبيب آخر كح فى وجه زوجها وهو يخبره أنه تحوّل إلى اكتئاب حاد ويجب عليها البدء بتناول الأدوية.

- كانت بقايا روحها تهتف أريد الحياة.. لستُ مكتئبة.

- نظرات الجميع أدانتها حتى والداها... حتى رضيعها…

سألته ذات فجر - فى لحظة ضياء - بعد أن أرضعته: هل أنا مكتئبة..؟

ابتسم الرضيع لها..!.

لم تغضب من صراحته حينها، سألته: هل آخذ الأدوية..؟

أجاب بعينيه المضيئتين بهدوء كأنه يخبرها أن لا شىء يجدى.

طفرت دمعة مؤلمة وقالت: لا أريد الدواء.... لا أريد.

رفض حينها الطفل اعتراض أمّه وبكى محتجًا على قرارها…

ألقته على سريره وابتعدت عنه ودموعها تنسكب سخية: لا أريد الأدوية حبًا فيك..... إن أخذته توقفت عن إرضاعك... وأنا أحبك يا صغيرى…

انزوت بركن غرفتها تبكى وتئن لحالها، دخل زوجها ورأى المشهد.. الكل يبكى لوحده لم يفهم شيئًًا ولم يسأل ليفهم..

وفى مساء ذلك اليوم كانت تُجرى فحوصات كثيرة، وظهر قلق جديد فى عيون من حولها وأخيرًا نطق الطبيب كلمته: إنها فى المرحلة الرابعة من سرطان الدم.

انهار جميع من حولها وانهمرت الدموع…

وقفتْ صامتة صامدة وقلبها بداخلها يهتف: سأرتاح.. سأغادر قريبًا.

لم تبكِ مثلهم فى حينها وهى التي قَدِمت للمستشفى منذ ست أشهُر جميلة، قوية، موفورة الصحة.

تاركة العمل والبيت وكل المشاكل وراءها، لتكتشف أخيرًا إن شرك الحياة والحب والتعلق كان أكبر مما تعتقد.

تمسك الكل بها وبدأت جلسات العلاج الكيميائى مع علمها بعدم جدواه لمن هو فى مثل حالها.

لم تصل للموت فتستريح... ولا نالت طيب الحياة فهنأت؛ إنما ظلت مُعلقة بشعرة تراوح بين الموت والحياة.

تعلن استسلامها بعد زيارة والديها وبكائهما عليها لكن الأجهزة لها بالمرصاد..

تتمسك بالحياة بعد رؤية اجتماع عائلتها فى زيارتهم الأسبوعية وهم يحيطون بسريرها فى حب كما يحيط السوار بالمعصم، ويحكى لها أطفالها عن مغامراتهم وشجارهم وضحكهم طيلة غيابها عن بيتها. بقصصهم تتشجع للحياة وتبتسم كواجب حتمى لإسعاد صغارها ومشاركتهم لحظات مرح لم تره منذ زمن ولن تراه مجددًا.

تأرجحت كثيرًا فى أرجوحة القدر... وطال وقوفها فى مرحلة البين بين تلك الرمادية اللون..

استجمعت قوتها ذات اجتماع وقالت للجميع بعيون يبس دمعها: أرجوكم اتركونى أستريح.

أمسكت أمّها بيدها وقالت: يا ابنتى قوّى إيمانك بالله... هو وحده الشافى.

هتفت ابنتها الكبرى: ماما أنت قوية..... نحن ننتظرك.

وضعت أمها الطفل بجوارها وهى تقول فى حنان: انظرى إليه إنه يريدك.. أنت أمله وحلمه.

قالت بألم: أنتم أنانيون لا تفكرون إلا بأنفسكم.... أنا أتألم كثيرًا.. كثيرًا وما عُدت أشبه أمَّه التي دخلت إلى هنا…

بكى الجميع وبكت هى بآخر الدموع المتجمعة وسمعت صوت والدها يرجو بضعف: أوقفوا العلاج... هى لا تريده.

زوجها يقول بأسًى منهزم: هذا أمرٌ لا مَفر منه.... ستنجو وتعود إلينا.

قالت أمّها : لك الله..لا أعرف ما أقول و.…

لم تسمع ما قالت أمّها ولا الآخرون، أغمضت عينيها علقت بصرها بسقف الغرفة وهى تردد: الأمل مؤلم... مؤلم... مؤلم.

صفرت الأجهزة واندفع الأطباء مجددًا، خرجت عائلتها تنظر من خلف الزجاج، تعلقت عينا والدها بالأجهزة الحيوية بينما الأم لم تحرك عينيها من جسد ابنتها والصغار يمرحون دون مبالاة..

زوجها يذرع الغرفة جيئة وذهابًا فى توتر ملحوظ، شقيقتها تجول بنظرها بين عيون الأطباء فى رجاء بينما هى الوحيدة التي تبتسم لأمل جديد تمسك به بحب...  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز