عاجل
الثلاثاء 30 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

حبــل غســيل

رسم: عبدالمنعم البطاوى
رسم: عبدالمنعم البطاوى

هى الآن هنا. تحاول بكلتا يديها الإطباق على ذاكرتها، تريد خنقها لتنطفى، لكنها تفشل, تنفتح مظلتها. تتناثر مشاعرها، وتبرز أوجاعها. تستعيد تفاصيل الهرب، ومغادرة المنزل برداء النوم، تركض بجسدها الشفاف إلى الأمام فى وسط غابة من العيون التي تستفزها مظهر أنثى لا الدم، تنجو بجدتها- ما تبقى لها فى الحياة-  يعلو صراخ من حولها، يدوّى الخوف، يندثر شعاع  شعرها, يثير ضباب الرؤية، لا فرصة لالتقاط الأنفاس وحبيبات الفجيعة تعلو، والدم يطفو على الرمل، والأحذية المغمسة بدم أصحابها، وخاتم الإصبع المبتورة، والإطارات العائلية على واجهة حيطان الغرف المنهارة، والهروب الفازع، صراخ الأطفال بحثًا عن أمهاتهم، والرجال اللاهثون وراء الأنقاض، والقذائف التي تتساقط، والطائرات التي تحط حمولتها والأصدقاء، والأعداء، ومَدرستها التي تحولت إلى ركام.. ومنزلها الذي هوى، ودفتر ذكرياتها، ولوحات الرسم، والرُّضَّع فى أحضان الآخرين، والشباب بدراجاتهم النارية يذهبون بالبشر إلى المستشفيات، وتكدس الدماء على الأسِرّة، وبرَك الدم فى عربات المسعفين، وجدتها البطيئة المشى، وصيغتها التي قايضت بها للهرب. 



نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

هكذا إذن، تنخلع الحياة ولا ينخلع رأسُها من مكانه، تحاول إلهاء ذاكرتها بحبل الغسيل الجاف فى الزقاق الرطب، تغسل كل ما يتواجد أمامَها وتنشره، ثم تنتظر, وتعاود الكرّة مرّات ومرّات. 

يومًا بعد يوم تعلق الأزمنة والتواريخ والأحداث على مساحة ذاكرتها الخضراء، تحوّلها إلى مساحة قاحلة، لا تخلو من مربعات وجُزُر خضراء متناثرة، هى ما تبقى من سكينتها وصفائها القليل، لا تلبث أن تتضاءل مع تقدُّم الوقت، فتتحول إلى بؤر صغيرة. 

تقلصت مساحة ما تبقى لها من الراحة. لكن الحرب لم تشأ أن تتوقف!. طبعت حضورها فى أصغر تفاصيل الوقت، بالأحداث والوجع. لم تعد تملك وقت شاغر لترتاح ذاكرتها، فالنوازل قد غطت الأيام والساعات والثوانى، والمواقيت.

لم تستطع الفكاك من ذاكرتها التي تستعيد التفاصيل كل الوقت. اضطرت تحت وطأتها إلى الانزواء فى غرفتها المظلمة خارج الزمن الحاضر، تجتر الماضى، ما لبثت عيش أحداث جديدة مُركبة مرشحة للتضاعف فى الوقت ذاته.

مع مرور الأيام ترسّخت تواريخ أخرى، تؤرّخ  لثورات، تناقض ثورات، تناقض أعياد قومية، تناقض سقوط وصعود وموت وأزمات. 

 تسلقت الحربُ  رأسَها كثعبان أسْوَد من  حروب التاريخ والأيام المقدسة. 

ذاكرة الأحداث والاحتفالات والخطابات والمناسباب طمرت حبل غسيلها اليومى، لقد سممت هذه التواريخ حياتها، ولم يكن لديها سوى أمل واحد للراحة. ابتلعت كل التواريخ السامة دفعة واحدة. كانت على وشك الموت لولا تدارُك جدتها لها فى اللحظات الاخيرة. 

فى قمة اضطرابها وبدلاً عن الملابس، نشرت التواريخ والأحداث على حبل الغسيل. لم يكد يمر نصف نهار، حتى فاحت روائح نتنة، انتشرت عبر الهواء غطت أماكن كثيرة. هرعت المنظمات الأجنبية العاملة إلى إزالة الروائح الكريهة المنبعثة، فعجزن عن فعل أثر يلمع وجودهن، ما حدى بالجدة إلى وضع مجهودها الخاص فى لافتة، كتبت عليها: "من فضلك احترس.. حبل غسيل تاريخى متعفن هنا".. هذه اللافتة لم تمنع المتمترسين وراء تواريخهم الخاصة، من المرور اليومى  على حبل الغسيل والمجادلة أخلاقيًا بشأن المتسبب بالروائح الكريهة المنبعثة. 

انتشرت الروائح الكريهة بازدياد، تسللت إلى منازل المواطنين، المدارس، الجامعات، المؤسَّسَات العامة، الوزارات، حتى وصلت مكاتب ومنازل  قادة الصف الأول فى البلاد. رُغْمَ هذا لم ينتقل شىء من رأسها، ما زالت الذاكرة تتمدد بأوجاعها. حتى تحولت إلى شرود يومى أقعدها عن الحركة وأحالها إلى الخمول والشلل.

تساقطت جدائلها السوداء، جحضت عيناها البنية، واصفرت وجنتاها الحمراء، التوى عنقها الأبيض، وتقوّس ظهرُها الشامخ، وتشققت بشرتها اللامعة، اختفى صوتها المثير.. وضعت جدتها فى أعلى الحيرة وعمق اليأس.

فكرت بحل أخير، فى محاولة إنهاء معاناة حفيدتها، جمعت كل التواريخ والأحداث مصدر الروائح الكريهة، وذهبت بهم بعيدًا، حفرت  حفرة عميقة ورمت حبل غسيل التاريخ معهما. أحرقت كل شىء، ثم  طمرت الرماد بالتراب، وعادت تحث الخُطى.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز