
ريـمة مـامـا

قصة: رشدى بن صالح سعداوى
كبرت البنيّة ريما، اليوم عيدها الثّالث. أفاق أبوها مع أوّل شعاع يتسلّل من نافذة غرفته كعادته كلّ يوم، ليعدّ فطور الصّباح ويوقظها فتستحمّ وتلبس ثيابها ثمّ يفطران ويأخذها للحضانة ويتوجّه لعمله. لكنّه اليوم لم يقم بما دأب على فعله كلّ صبيحة، فقط سار على طرفى قدميه، فتح باب غرفتها قليلا وأطلّ عليها برأسه فرآها كمَلاك مستلق على غيمة تسبح بها فى السّماء. قطف قبلة بإصبعية من بين شفتيه وألقى بها على خدّيها وتركها وذهب.
عاد سامح إلى غرفته وصورة ريما لا تغادر عينيه، تملأهما فرحًا وبشرًا. اتّجه إلى رفّ فى خزانة ملابسه يحرص دومًا على إحكام غلقه بالمفتاح. فتحه، أخذ منه بعض الأغراض كان قد جهّزها من البارحة، استدار، وضعها برفق وحنوّ على سريره وجلس يتفحّصها. بدلة زفافه السّوداء وقميصها النّاصع بياضًا. قنّينة عطر زرقاء، تعطّر بها ليلة زواجه من فيحاء. قارورة عطر ورديّة، تعطّرت بها عروسه أو هى من عطّرتها وتركت رائحتها فيها.

ثم وفى آخر المطاف تناول فستانًا أسْوَدَ وقميصه الأبيض وابتسم ثمّ دمعت عيناه وسرعان ما تداركهما ومنعهما من مواصلة البكاء، فاليوم لا مجال للبكاء! إنّها فرحة ريما بعيدها الثّالث.
هى لم تغادره يومًا، وحتّى لمّا اختارها الله جواره تركت له أجمل هديّة، صغيرته ريما. لا يزال يذكر أدقّ التّفاصيل يوم أخبرهما الطّبيب أنّ فيحاء حامل فى شهرها الثّانى، كانت أسعد لحظة فى حياتهما. عاشا فترة الحمل لحظة بلحظة، اقتسما فيها كلّ شىء إلى أن أتى يوم الولادة. كان يومًا شتويّا، بكت فيه السماء وفاض سيلها فى كلّ الأرجاء. بكت السّماء فيحاء، فقد سافرت دون عودة بعد أن تركت بين يدى حبيبها سامح قطعة منها؛ بل أجمل ما فيها. لذلك هو لا يريد ذكر كلمة موت أو التّفكير فيها، ورُغم الحزن الّذى سكن قلبه، من الغد انقشعت السّحب من سمائه وأينع قوس قزح بألوان صغيرته ريما. كان يراه معلّقا فى السّماء ويدا فيحاء تمسكان به لينير دربهما، هو وابنته.
كانت أيّامًا صعبة، قام فيها بدور الأمّ والأب ولم يَكلّ ولم يَملّ. كان أكثر شىء يشجّعه على مواصلة المسير بابنته لتينع وتكبر، صورة زوجته وهى مشرقة فى السّماء. تمسح دمعته وتحثّه على مزيد العطاء لابنتهما.
أراد أن يرضيها لتقرّ عينًا حيث هى. كان الجهد مضن فى بداية المسير، لكنّه بالدّربة والمثابرة أصبح أمرُ ابنته متعة لا يمكنه الاستغناء عنها.
ذهبت به الذّكريات بعيدًا، أراد أن يظلّ فيها، لكنّه عاود فحطّ على الأرض فابنته تنتظر عيدها.
أسرع فلبس بذلته وتعطّر وكأنّه فى يوم زفافه. ثمّ أيقظ ابنته، أخذها فى حضنه، غسل لها، ثم ألبسها ثوبها الجميل وهو يتذكّر ما قالته أمّها حين رأته بواجهة أحد المغازات، وهى حامل بابنتها فى شهرها الثّامن:
ـ حبيبى! رأيت ما أجمل هذا الفستان، أرجوك اشتريه، أريده لابنتنا، إنّى أتخيّلها وهى تلبسه وتسير به كفراشة وسط الحقول.
ـ ههههه... ماذا، إنّها لا تزال جنينا فى بطنك وتريدينى أن أشترى لها هذا الثّوب!
ـ يالله حبيبى، قلت أريده، ستحتاجه يومًا، سترى!
واشتراه، وعادا به إلى البيت، ومن يومها وهو محفوظ.
رشّ عليها زخّات من عطر أمّها الجميل الفوّاح، وأمسك بها من يدها وخرجا من المنزل فى اتّجاه الحديقة المجاورة.
الحديقة تبعد ربع ساعة بحساب خطوات ريما الصّغيرة، لم يرد حملها فى حضنه لأنّه أحسّ أنّ صغيرته كبرت ويجب أن تتعلّم وتعلم كثيرًا من الأمور. كان ممسكًا بيدها الصغيرة وينظر إليها بعين والعين الأخرى ترقب الطّريق. قال لها:
ـ اليوم حبيبتى ريما عيد ميلادك الثّالث، هل أعجبك الفستان ورائحة العطر.
أومأت الصغيرة برأسها وهى تنظر فى وجه أبيها.
ـ الثّوب اختارته لك ماما قبل أن تولدى، أعجبها كثيرًا فقالت لن يكون إلّا من نصيب ريما، اشتريناه وخبّأته لك لهذا اليوم.
ابتسمت وقالت:
ـ ما...ما، ماما.
كانت كلماتها كالعسل يقطر من بين شفتيها الورديتين. إنّها أوّل مرّة يَسمعها تنطق كلمة ماما، دمعت عيناه ولكنّه تمالك نفسه وواصل قائلا:
ـ والعطر! إنّه عطر ماما وهى عروسة.
ضحكت البنيّة، حتّى سمع صدى صوتها الملائكى يرنّ فى أذنيه، ثمّ سمعها تقول وهى تستدير وتقف بين ساقيه: ـ يا ..يا.. بابا.. ماما.. عروسة.. يا.. يا..
أخذها بين ذراعيه، قبّلها ثمّ مسكها مجدّدا من يدها وواصلا الطّريق. سكت هنيهة ثمّ قال لها:
ـ ماما، نعم حبيبتى ماما عروسة. وسآخذك إليها، نعم سآخذك إليها. سآخذك للحديقة الّتى التقيت فيها بماما لأوّل مرّة، وجلسنا على عشبها وتحت أشجارها آلاف المرّات.
لم تنطق ريما، فقط كانت تنظر فى وجه أبيها وتبتسم، فواصل يحدّثها:
ـ تعلمين حبيبتى ريما، ماما يحبّها الله كثيرًا، إنّها عنده فى السّماء…
رفعت ريما رأسَها للسّماء وابتسمت…
ـ نعم حبيبتى، هى عنده فى السّماء ولكنّها تطلّ علينا بعينيها العسليّتين الحلوتين وتسمعنا. وأنت أيضًا أغمضى عينيك وناديها، ماما وسترينها. هيّا حبيبتى نجرّب معًا.
كانا قد وصلا الحديقة، فوقفا وسطها وأغلقا أعينهما فأحسّا نسمة تهبّ حولهما ورائحة زكيّة تبخّر المكان. فقال سامح وعيناه لا تزالان مغلقتين.
ـ إنّه نسيم فستان أمّك الأبيض المورّد حبيبتى، ورائحة عطرها الفوّاحة. هيّا مدّى يدك والمسيها، إنّها جالسة عند قدميك تريد تقبيلك.
مدّت البنيّة يدها الصّغيرة وعيناها مغمضتان، فعلا أحسّت روح أمّها وكأنّها فى حضنها. بقيا على تلك الحال للحظات ثم واصلا المشى فى الحديقة وهو يحدّثها.
ـ أرأيت حبيبتى، ماما فيحاء كم تحبّك، أتت من السّماء لتحتفل معنا بعيد ميلادك. انظرى…
وضع يده فى جيبه، وأخرج منه دُمية مدّها لريما وقال:
ـ إنّها هديّة ماما، هى لك…
أخذتها البنيّة وابتسمت وهى تردّد:
ـ حبيبتى ماما... حبيبتى ماما…
ثمّ قال لها فى حنوّ وهو يداعب خدّيها:
ـ حبيبتى ريما، ماما ستظلّ دائمًا معنا تؤنسنا. أرأيت، وإن كنّا نلبس لباسًا أسود فإنّ قمصاننا بيضاء، كذلك يجب أن تكون قلوبنا فرحة وتفاؤلاً. تلك هى الحياة حبيبتى. أرأيت ذلك الضّوء الّذى فى آخر الطّريق؟ ذلك مستقبلك، ويجب أن نبلغاه معا وماما معنا..
ابتسمت البنيّة وارتمت فى حضنه فحملها وعادا إلى البيت.
وضعها فى فراشها وهو يردّد ترنيمة فيروز:
يالله تنام ريما يالله يجيها النّوم
يالله تحبّ الصّلاة يالله تحبّ الصّوم
يالله تجيها العوافى كلّ يوم بيوم
يالله تنام يالله تنام لاذبحلها طير الحَمَام
روح يا حَمَام لا تصدّق بضحك ع ريما تتنام
ريما ريما الحندقّة شعرك أشقر ومنقّى
واللّى حبّك يبوسك واللّى بغضك شو بيترقّى
يا بيّاع العنب والعنبيّة قولوا لإمّى وقولو لبيّى
خطفونى الغجر من تحت خيمة مجدليّة
التّشتشى والتّشتشى والخوخ تحت المشمشة
وكلّ ما هبّ الهوى لاقطف لريما مشمشة
هاى هاى وهاى لينا دِستك لَكَنِكْ عيرينا
لنغسل ثياب ريما وننشرهن ع الياسمينة
وما كاد ينهى سامح الأغنية حتّى غلبه النّعاس فاستلقى جنب ريما ونام.