
مرايا معتمة

قصك: تمام حسين طعمة
يمسكُ بالقلم الرصاصِ مسرعًا خائفًا كأن أحدًا ما يطارده ويحمله كما يحمل البندقية ويصوِّبه باتِّجاه النافذة التي تطلُّ على الشارع الرئيسى للمدينة، ويحاول خلال ذلك إطلاقَ كلماته العمياء كأنَّها رصاصٌ حى ويصدر معها صوتًا عنيفًا، مع حركاته التمثيليَّة التي يبدو فيها أقرب إلى البلاهة، ويوجِّهُها حيثما اتفق لا يأبه إلى أين يتَّجه قلمه المريض.
وبعد أن يشعرَ بالتعب يعودُ إلى كرسيه الخشبى ذى الوسائد الجلديِّة ليجلسَ أمام طاولته الصغيرة التي تغصُّ بكتبه ودفاتره وأوراقه ناصعة البياض الخالية إلا من بعض الكلمات أو الخطوط التي لا معنى لتلطيخ الأوراق بها، يعود لمحاولة كتابة القصة التي كان عليه أن يكتبها قبل أيام ولم يستطع إلى الآن أن يكتب منها شيئًا، ورُغم ذلك ما زال يحاول، وكلَّما فشلت المحاولة تنكَّبَ قلمَه الرشَّاش وراح يطلقُ رصاصَه عبثًا.

كانَت آخر ورقة قد فشلَ فى الكتابة عليها قد مزَّقها بيدين من حنق قبل دقائق فقط ورماها أمامَه فوقَ كومةِ الأرواق الأخرى بعد أن ضاقَ ذرعًا بقلمِه، وكان قد كتبَ عدَّة أسطر عليها، واستطعتُ أن أسترقَ النظرَ وأقرأَ بعضَ ما أفرغَ عليها، وقد كان عنوانها مرايا معتمة أو بهذا المعنى، وكان مضمونها يشبهُ بعض الطلاسمِ التي يعجزُ البشر عن فكِّ رموزها، استطعت أن أرى أكثرها لكننى لم أعِ أى جملةٍ منها ولم أحفظ أى سطرٍ، فقد كان كلامًا عصيًّا على الحفظ والفهم، غير أنَّنى اكتشفت عن الفكرة التي تدورُ حولها القصَّة.
كان يحاول أن يكتبَ عن الكارثةِ الجديدة التي ضربت المدينة بأسْرها منذ شهور، كارثةٌ جعلت الناس جميعَهم يتركون الكتبَ والمجلاتِ والجرائدَ وينهمكون فى النظر إلى شاشاتٍ مضيئة صغيرة تأسرُ أذهانهم وتلفُّ حبال سطوتِها حولَ أدمغتهم، وهذا ما دعا مديرَه فى مجلَّة "مرايا صغيرة" التي يعمل فيها لأن يطلبَ منه كتابة قصَّة يلفتُ من خلالها أنظارَ الناس إلى المجلة، ويشدُّ أفكارَهم إليها ويعيد إلى نفوسهم الرغبةَ فى قراءة الكتب والمجلات الورقيَّة، ولكنَّه عبثًًا كان يحاول ذلك، ودائمًا كان يدور فى نفسِ دوَّامة الفراغ تلك، حتى إنَّه نفسه لم يعد يصبر على قراءة الكتب كما كان سابقًًا، وكلَّما زادَت رغبته بكتابة هذه القصة زاد ابتعاده عن القراءة والكتابة أكثر.
وكان يرى فى أحلامه الرؤيا ذاتها كلَّ ليلة ويستيقظ فزعًا: فقد كان يرى نفسه غارقًا بين أمواج حشدٍ كبير من الناس وجوههم مطموسةٌ دون ملامح، وكانوا يتدافعون باتجاه ساحةٍ كبيرة على شكل شاشةٍ مسطَّحة نُصِبَت فى وسطها منصَّةُ إعدام ضخمة، وعلى منصَّة مرتفعة وبعيدة وقف شاب صغير لكنَّه ضخم الجثَّة يحمل فى يديه أسلاكًا كهربائية ويلوِّح بها كأنَّها سياط ويطلُّ بابتسامة ساحرةٍ من شاشةٍ عملاقة تأخذ شكلَ هاتفٍ محمول، والحشد المتدافع ينتظر بشغف وفرحة أن يظهر الشخصُ المحكوم عليه بالإعدام، وخلال انتظارٍ مملوء بالضجيج والخوف يظهر كتابٌ ضخم ذو غلاف جلدى مذهَّب تبدو آثار الهرم على ملامحه القديمة، وعنوانه الذهبى يلمع كلَّما خطى خطوة باتجاه المقصلة، وكان كلَّما قرأ عنوان الكتاب الذي بدا له مرايا معتمة استيقظ مذعورًا ونسى الاسم.
وأثناءَ وجوده فى العملِ كان المدير يؤنبه لكنَّه كان يتملَّص بطريقة مُتعِبة فى كلِّ مرة ويبرِّر تقصيره، وفى إحدى المرَّات دعاهُ المدير إلى مكتبه، وكان غاضبًا جدًّا والشرر يقدح بين عينيه، مشى إلى مكتب المدير على استحياء وهو يفكِّر بآخر مرةٍ حاول فيها الكتابة وكتب نصف صفحة ثم مزَّقها وألقاها على أرض الغرفةِ، وبينما هو غارق فى تفكيره دخلَ إلى مكتبِ المدير، صرخ المديرُ بوجهه مؤنبًا فاستلَّ قلم الرصاص دونَ وعى وبدأ يطلق الرصاص على مديره كما يفعل عادةً عندما يعجز عن الكتابة، ولمَّا رآه المدير ضحكَ ضحكةً مجلجلةً وانقلبَ غضبه إلى انبساطٍ، فاستعادَ الكاتب وعيَهُ وراح يكرِّر اعتذاراته للمدير والأخير يضحك ويقول:
-لا عليك يا بنى، أنت فعلاً كاتبٌ مجنون.
وعندما همَّ بالخروج حدَّدَ له المدير يومًًا لتسليم القصَّة وتوعَّده بالطردِ إذا لم تكن جاهزة فى موعدها.
خرجَ الكاتبُ مكسوَر الخاطر حزينًا، تراودُه كوابيسُ اليقظةِ، فماذا سيفعل إذا طُرد من وظيفته؟ ومَن سيتولى مهمَّة الإنفاق على أمِّه وأخته الصغيرةِ التي لا تزال فى المرحلة الابتدائية والتي تناديه بابا فتصهر قلبَه بكلمتها؟ ووالده المتوفى منذ أعوام لم يترك لهم سوى غرفتين صغيرتين فى إحدى عمارات المدينة القديمة، وكيف سيستمر فى تسديدِ الديون التي تراكمَت عليه فى الفترة التي سبقَت استقرارَه فى هذه الوظيفة؟
وبينما هو فى طريقِ عودته إلى المنزل وقفَ أمام متجرٍ ذى واجهة زجاجية كبيرة، تُعرضُ خلفها عشرات الأنواع والأشكال من الهواتف أو الموبايلات الحديثة فالتصقت هذه الصورُ فى ذهنه، أمَّا المكتبة التي كان يزورها دائمًا والتي تغصُّ بآلاف الكتبِ والروايات لم يتجشَّم عناء النظر إليها بل أدار رأسه عنها كأنَّه مشغول بالنظر إلى شىء، ورجعَ إلى المنزلِ وصورة ذلك المتجرِ البرَّاقة تتراقصُ لناظريه أينما اتجه، وكلَّما حاول الكتابة تمدَّدت صورتُه على كلِّ ورقة مانعةً إياه من كتابةِ أى كلمة.
ظلَّت تلك الصور تحاصرُه فى الفترة التي سبقَت يوم الموعد المحدَّد لتسليم القصَّة، وكانت مخاوفُه وهمومه تزداد يومًا بعد يوم إلى أن خطرَت على بالِه فكرةٌ غريبة جدًّا قبل الموعدِ بيومٍ واحد، وقرَّر أن يقومَ بتنفيذها كمحاولةٍ أخيرة للتمسُّك بوظيفته.
وفى اليوم التالى لمحتُه يخرج على غير عادته متفائلاً مشرقًًا كشمسِ ذلك اليوم الخارجِ عن المألوف وفورَ وصولِه إلى مكان عمله قصدَ مكتبَ المدير وطلب مقابلته بوجهِه البشوش، استقبله المدير أيضًا بسرور وترحيب مبالغٍ فيه معتقدًا أنَّه يحمل إليه ما قد تأخر فى كتابته وخاطبه قائلاً:
- هل أنهيتَ القصة أيها الشقىُّ؟
- لا يا أستاذ، لكننى أحضرت لك أجمل منها.
أخرج الهدية القيِّمة وقدَّمها إلى المدير، فتح المدير علبةَ صغيرة الحجم وأخرجَ منها الهاتف المحمول ذا الشاشةِ الكبيرة التي تعملُ باللمس، دهِش المدير وقال:
- هديتكَ مقبولةٌ أيُّها المحترَم، يمكنك أن تنسى أمرَ القصة الآن، وستبقى فى وظيفتكَ لا تقلق، وقد تحصل على ترقية لاحقًًا.
غمرَت فرحةٌ عارمةٌ ذلك الكاتبَ المُعتِم وشكرَ مديرَه بكلِّ كلماتِ الثناء والتقدير وطلبَ إجازةً لبقيَّة يومِه وخرجَ مسرعًا عائدًا إلى منزلِه ليفتحَ هديَّته هو أيضًا؛ لأنَّه كان قد ذهبَ إلى ذلك المتجرِ الذي يبيعُ الهواتفَ المحمولة بالتقسيط، واختارَ اثنين من أفضلِ الأجهزةِ الحديثة فى ذلك الوقت، وعزم على أن يقدِّم إلى مديره واحدًا منهما كهدية قيمةٍ ويحتفظ بالآخر له فى حال وافق المدير على قبول تلك الهدية وأبقاهُ فى وظيفته، وصل لاهثًا إلى غرفتِه، وقبل كلِّ شىءٍ كسرَ قلمَ الرَّصاص الذي كان يستخدمُه أثناءَ الكتابة، ثمَّ فتحَ العلبة على عَجَلٍ ولكنَّه فُوجئَ بدفترِ التعليمات المرفقِ بالهاتفِ المحمولِ، يشبه الكتاب الذي كان يراه فى أحلامه، وعندما حمل الجهاز رآنى على شاشته المعتمة بوجهى البشوش أبتسمُ له.