عاجل
الإثنين 29 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

عم نينو

رسم: سامى أمين
رسم: سامى أمين

أنا أكتر واحد انضرب فى الأفلام ومن كل الممثلين.. فريد شوقى.. زكى رستم، رشدى أباظة، كلهم..



هكذا بدا عم نينو حكايته لنا، دائمًا أراه يجلس بكهولته مسمرًا أمام شاشة تلفاز القهوة، يسحب أنفاس شيشته بثبات، ثم ينتبه فجأة بكل جوارحه، وسحابة من الدخان تندفع من فمه وأنفه، تحلق.. تحوط التلفاز من كل اتجاه، تفحص معه أركان مشهد أكشن بالفيلم الذي يشاهده، لا يلبث كثيرًا ثم يمتعض رافضًا ما رأى أمامه بتحرك يده بالهواء؛ ليشير لمن بجواره وقد تعرّف عليه فقط الآن، أن الدُبلير هذا لم يكن يتدرب جيدًا على قفزة السيارة، كما أنه لم يتدرب جيدًا، كيف يتحرك وينفذ كل حركات الأكشن دون أن تراه الكاميرا، ثم يعيد نظره إلى التلفاز، بملامح حزن يتداخل به الشوق والحنين مع تذكرها لأيام رحلت..

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

ثم ينظر للرجل الذي بجواره مرّة أخرى وقد تبدّلت ملامحه للسعادة والتفاخر:.. تعرف أنا كنت بعمل خمس ست قفزات عربية فى اليوم، كان المخرجون والمنتجون وكل بتوع السينما حبايبى، والله كان يجبونى بالاسم، يوم اتزنقوا فى مَشاهد ومحدش نجدهم منها غيرى..

عم نينو أشهَر دُبلير فى الستينيات والسبعينيات، غير معروف.. هكذا يحكى الناس بالقهوة عنه.. اعتاد عم نينو فى بدايته ومع زهو دخوله التمثيل أن يصطحب أصدقاءه إلى السينما لكى يشاهدوه، يظل متحفزًا داخل كرسيه؛ ينتظر أن تأتى مَشاهد الأكشن؛ ليهتف مشيرًا إلى الشاشة وهو يخبرهم أنه مَن ينضرب أو يقفز أو يتحرك، يظل أصدقاؤه يدققون النظر بالمشهد لكى يروا أى شىء من وجّه نينو صديقهم إلا أنهم يفشلون.. حدث معه هذا كثيرًا، حتى سئم من نظرات الناس داخل قاعة السينما حين يهتف بأنه هو مَن يفعل هذا وليس بطل الفيلم، انكسر الزهو داخله عندما بادله كل مَن يسمعه بنظرة احتقار وتقليل، فاكتفى بأن يذهب وحيدًا، ينظر بصمت لنجاحه، ولكن أى مذاق لنجاح قد يصل طعمه لك وأنت وحيد، كيف يصل لك وأنت لا تراه فى أعين أحد، لا يتفاخر به ولا لك أن تتفاخر به، كان هذا يحزنه لكنه كان يؤمن بقسمة القدَر، وبحبيبته الكاميرا…

..-  إحنا بس اللى جُوّا الشاشة مطلوب مننا مانشفش، ولو اتشفنا يبوظ الفيلم..

يعود مثقلا ببعض الإصابات إلى شقته، يلقى جسده بإرهاق على سريره، يتأمل السقف، شاردًا فى صراخ المُخرج عليه اليوم :.. نينو، وشّك ظهَر، عيد كمان مرّة..

ابتسم بطرف فمه ساخرًا عند تذكره ذلك، قبل أن يتبدل وجهه بالسعادة والزهو وتلمع عيناه بالفخر وصوت المُخرج يشجعه ويصفق له:.. برافو يا نينو.. برافو..

كم هو مؤلم أن تصبح حاجة الناس إليك أن تكون غير مرئى.. 

..- إيه تانى زعّلك يا عم نينو؟؟

..- بكرة..

..- بكرة ؟!!!

أكثر ما يقلق عم نينو هو الغد، ما يرعبه هو قَطع ورقة النتيجة وألقاها إلى بعيد بما تحمله من يوم غدر به وبحبه، كان يرى أن عمر بقائه داخل حبيبته الكاميرا متوقف على ثبوت الأيام أو تحركها، هو لا يملك غير الشباب الذي يجعله مطلوبًا منها، مع رحيل الأيام دون توقف سوف يزحف الشيب داخل رأسه، سوف تعانق التجاعيد رقبته، سوف تتساقط أسنانه التي صمدت أمام أعتى الممثلين، كل تلك الإمكانيات، لها وقت وتعد غير صالحة، هو ليس ممثلاً، سوف يتلون بين الأدوار كل دور على حسب سنّه، هو يملك فقط الشباب، ويملك اليقين بداخله أنه سوف يرحل، لكنه كان يتمنى أن يمهله الزمن فقط القليل حتى يشبع من حبيبته، أو أن يُعجّل بالموت، فيرحمه من النسيان. 

..- لا الأيام وقفت، ولا أنا شبعت منها يا بنى…

زحف الشيب فلم يستثنى أى جزء فى وجهه، التفت التجاعيد حول جسده كله، من أخمص قدمه إلى جبهته، تحالفت مع الشيب، فأرقده طويلاً  داخل فراشه، يتجرع مرارة المرض بعد صحة... 

ليفيق من مرضه على هرم جسده، وتآكل عضلاته، خرج ليقف أمامها بعدما ألقى كل الشيب داخل صبغة اللون الأسود، لم يترك أى مَلمح له إلا ووضعه خلف ستارة من الصبغة، ومع صوت صدح بمكان التصوير، حاول أن يتقافز بشيخوخته المخبأة خلف التحايل إلا أنه لم يستطع، ألمٌ بالظهر والمفاصل منعاه، فكادت السيارة أن تدهسه، حينها أدارت حبيبته وجهها عنه، أخبرته بأن عصره قدر رحل مع شبابه، بحثت عن غيره.. لم تودعه حتى؛ فقد أتى مَن استولى على عقلها بحركات الأكشن الجديدة (الكاراتيه)..

****

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز