
عروسة مارونيت

قصة: د. ماريانا يوسف
كانت مكالمتهما الأخيرة بمثابة ميثاق للهجر الأبدى، فقد أبدى لها رغبته فى انتهاء قصة حبهما دون مُبرّر، ووقع هَول الصدمة عليها بالصمت؛ فقد كانت تحاول أن تعرف منه السبب المفاجئ لذلك، فما كان على لسانها سوى "لماذا؟ أفعلت شيئًا؟... أمْ إنك تتلاعب بى؟... قل لى سببًا واحدًا وجيهًا وأنا لن أناقشك؟ وسأبتعد عنك على الفور... سوف أبتعد إن أخبرتنى، لا تتركنى هكذا وترحل دون أن أفهم أو أدرك ما وراء ذلك الأمر".
كان يَُحدّثها وقتها بشكل جدّى فعاد يتحدث بالألقاب، تحدّث إليها كمَن يتحدث إلى الغرباء، فأدركت وقتها أن القصة قد انتهت وقد انقلبت آخر أوراقها لتسطر النهاية مفتوحة بانتهاء القصة دون توضيح للهدف أو الرؤية.
شعرت وقتها وكأن المحكمة قد أطلقت عليها حُكمًا بالموت دون حتى أن تترك لها فرصة للدفاع عن الفرصة فى انتهاك صارخ وصريح لمشاعرها المتألمة؛ بل حتى دون أن تعرف نوع القصة أو التهمة المنسوبة إليها.. فقط عليها أن تنصاع وتنفذ الحُكم الجائر دون شرح للأسباب والدوافع.

ففى بداية المكالمة كانت هى فى منتهى اللطف معه كالعادة، تداعب مشاعره بكلماتها المليئة بالحب والمشاعر والخارجة من القلب وتعاتبه على 5 أيام كان يتهرب فيها منها، وفى منتصف المكالمة تلقت صدمة الكارت الأحمر فمال وجهها للاصفرار وتغرغرت عيناها بالدمع فأصبح مثل زجاج مندّى بالماء فى أحد أيام الشتاء، كانت تحادثه بينما تَعبر طريقًا سريعًا ظنت وقتها أنها لن تنجو منه لأنها كانت تَعبره دون أن ترى العربات المسرعة القادمة ودون أى اكتراث لها، ثم بدأت الكلمات تثقل على لسانها فبدأت تتهتت "لماذا؟!"، وكأنها لم تتعلم كلمات أخرى سواها، لم تتعلم أن تنطق كلمات مثل "ذلك أفضل.. أنا التي سوف أتركك لا أنت... أنت أنانى.. أنت لعوب"، فى نهاية الحديث سكت لسانها؛ فقد مات قلبها بسهم مسموم من أقرب شخص لها ودون أدنى مقاومة منها استسلمت، فلم تعرف كيف أو بماذا ترد عليه، فقط أثرَت الصمت فلم يعد للكلمات أدنى معنى بعد ما قاله.
ومرّت عدة أسابيع حاولت فيها شفاء ذاتها من ذلك الحب الملعون الملوّن، حاولت التخلص من مرض التعلق، كل ما تمنته أنها تكون بصدد "حلم"، وأن تكون قصته مجرد "حلم" لتستيقظ تجد نفسها بلا حب، لم تعرفه، لم تقابله، أو أن تكون مكالمة الهجر الأخيرة كأنها لم تكن، ولكن دومًا ما تأتى الرياح بما لا تشتهى السُّفن؛ فقد كان ذلك واقعًا وكان عليها أن تتخطاه لكى تكمل حياتها وأن تعتبر ما مضى وكأنه لم يكن، كانت تأكل الحلوى بطعم المرارة، كانت تأكل القليل على مضض لكى تبقى فقط على قيد الحياة، لكى تمثل أنها تعيش، كان قلبها ينبض ذلك النبض المعتاد بعيدًا عن النبض الذي اعتادته حينما كان قلبها مولعًا به مشغولا عليه هائمًا فى غرامه، ذلك النبض الأخير الساحر الذي كان يجعل وجهها دومًا مبتسمًا ومنيرًا من دون سبب، وعيناها باتتا شاردتين وبهما لمعة مميزة لدرجة أنها كانت تعرف الأحبة من صديقاتها أو من رُكاب المترو فقط بالنظر إلى أعينهن واكتشاف تلك اللمعة المميزة التي ترمز إلى "الولع".
وهكذا مرّت الأيام حتى عاد ورن هاتفها من جديد من رقم كانت تنتظره أيامًا شاغفة حتى مات الشغف بداخلها، ولكن مع دقات هاتفها كان يدق قلبها أيضًا، ومسكت بهاتفها لتتأكد من أنه هو ، نعم إنه هو، إذن ماذا يريد، هل يريد مزيدًا من التجريح، مزيدًا من الكلمات القاسية؟!، مرّت بها العديد من التساؤلات دون إجابة وكثير من الارتباك فى تلك الثوانى القليلة بينما مازال هاتفها بين يديها يصدر رنينًا برنته الخاصة والتي اكتشفت وقتها أنها لم تقم بتغيير تلك الرّنة المميزة التي كانت سبقت أن خصصتها له حينما كان يجمعهما الهوَى.
وأخيرًا اتخذت القرار بأن تسارع بالرد قبل أن ينتهى الرنين؛ لأنه لو انتهى فكرامتها ستمنعها من معاودة الاتصال به... فى النهاية ردت عليه بأسلوب حازم وجدّى، أسلوب يماثل الأسلوب الذي تحدّث به فى مكالمته المفجعة الأخيرة، فهى لا تريد صدمة أخرى إن باحت له بافتقادها له ولكلماته ولصوته ولملامحه، ولكنها تركت له المجال للحديث عن سبب اتصاله من جديد؛ لتجده يتكلم معها بطريقة تلقائية وعادية تمامًا، وكأن الذي هاتفها من قبل كان شخصًا سكيرًا أو لديه انفصام فى الشخصية، لم يتكلم بكلمات الحب ولم يتطرّق إلى نطاق الهجر؛ بل كانت كلماته وسطية غير مفهوم مغزاها، هل اشتاق إلى صوتها أمْ يريد أن يعرف أخبارها أمْ ماذا؟!، تساؤلات كثيرة تنتظر الإجابة عبر كلماته فظلت تسمعه، أمّا هو فعبّر لها أنه يريد أن تكون له "صديقة" وكفَى، وكأن الأمر يتوقف على اختياره، ماذا يريد هو؟ ومتى؟ وبالطريقة التي يفضلها... هو مَن يختار مكانتها لديه ويقلب وضعها بين الحين والآخر حسب أهوائه من محبوبة لمعشوقة لعدوّة لإنسانة غريبة لصديقة.... وهلم جرّا، وهى عليها أن تقبل أن تكون "عروسة مارونيت" تطيع أوامر قائد تلك الأحبال تبتسم وقتما أراد، تخضع وقتما أراد، دون حتى أن تُعَبر عمّا بداخلها من رفض أو قبول.
ظلت تسمعه وتحدّثه بنفس نبرة صوته المرحة المازحة دون زيادة أو نقصان، لم تعاتبه، لم تسأله تلك الأسئلة التي كانت تدور فى ذهنها سابقًا، لم تسأله عن سبب معاودة الاتصال؟ أو لماذا الآن؟ وكيف؟ ولماذا تريد أن تهبط بها إلى منزلة الصديقة؟
كانت وهى تسمعه تسأله سرًا بينها وبين ذاتها "ألن تقول لى مجددًا أحبك أو أشتاق إليكِ.. وما إلى ذلك.. ألن تعتذر عن الهَجر والخذلان؟".
ظلا يسألان بعضهما عن أحوال كل منهما والجديد فى حياتهما وظروف عملهما وانتهى الحوار إلى هنا حتى دون تمنّى لأى منهما للآخر بأن يعاود الاتصال أو الدعوة إلى لقاء جديد.
بعدما أغلقت الهاتف بعد تلك المكالمة، تَغير شىء بداخلها، فبعدما كانت مرتبكة تغيرت مشاعرها فجأة بشكل لم تكن تتوقعه هى، فقامت بعمل "بلوك" له وإزالته من كل مواقع التواصل الاجتماعى، لقد اتخذت قرارها بهدوء وعن عمد ودون أى شعور بالندم والخسارة.