عاجل
الإثنين 29 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الكتاب الذهبي
البنك الاهلي

عم محمد الإسكافي

إلى جوسيبي تورناتوري



لم يخبرني أحد بموته. وعندما عُدت إلى البيت في إجازة الصيف، كانت الرطوبة تملأ المنزل، وأبي جالس على المصطبة في الخارج، يضطجع على جنبه وقت العصر، يستنشق الهواء ويرتشف من شايه، والصمت يأكل الوقت.

لا جديد! وحدثني محمود صديقي في الهاتف كي نلتقي مساءً، عندما سألته أن نلتقي عند أول شارع الصيدلية، لأنني سأتوقف قليلًا لأسلم على عم محمد الإسكافي، أخبرني. صمت، ثم أخبرته أن نلتقي عند السوق، قررت ألا أقرب الشارع الجنوبي.

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

لشارعنا مخرجان، مخرج شمالي يقود إلى شارع السوق ثم الكورنيش، والآخر جنوبي أقصر كثيرًا، يقود إلى شارع الصيدلية ثم إلى الكورنيش. وكنت دائمًا أختار الشارع الجنوبي، أمر على عم محمد الإسكافي إن كانت لي حاجة أو لم تكن، لا أعرف لِمَ كنت أحب أن أجلس طويلًا أراقب ذلك الرجل الصامت في ركنه الأقصى من دكانه الصغير، وهو عاكف على حذاء يرتقه أو حقيبة يد يخيط ذراعها الساقط. يعمل في مثابرة، قد يجلس على وضعه لساعات محني الظهر، ينسى نفسه وينسى ما حوله وينسى ظهره، حتى أفاق يومًا فوجد أن ظهره لا ينفرد ولا يعود كما كان، فهز كتفيه مسلمًا وتابع عكوفه اللانهائي.

وكنت أراقبه في الدقائق الصامتة فيملأ قلبي الثائر الحزين بالرضا والسكينة. الإضاءة الصفراء الذابلة، الحائط الساقط، الدكان الصغير الذي لا يكاد يسع غيرنا، أدواته الدقيقة التي تنتثر حوله، ويصل إلى جميعها دون أن ينظر، السلة الخشبية القديمة، تلك التي تقبع في الركن كلغز عظيم، ثم أسأله إن كان يريد شيئًا.. يرد: "تسلم يا ولدي"، فأهز رأسي في حركة آلية ثم أمضي. كانت تلك الدقائق الزائدة في الطريق الجنوبي القصير أفضل عندي كثيرًا من المشي في زحام السوق. 

ثم عندما كبرت قليلًا عرفت أن هناك شيئًا اسمه الوقت، وأن عليّ أن أستغل كل لحظة فيه، في إنجاز شيء في حياتي، وألا أضيّع منه شيئًا، فلم أعد أتوقف، بل أتابع الطريق بعد أن ألقي سلامًا سريعًا لا يتعدى الثواني، لا يستطيع الرجل العجوز أن يُدير رقبته فيها فيكتفي برده بصوت ضعيف لا يصل إليّ منه إلا الأثر، وأتابع طريقي الصاعد لا أتلفت.. أمشي، أمشي في طرقات كثيرة، وأسعى بين أبواب لا تنتهي.

قدماي مسطحتان، وحركتي تؤثر دائمًا على أحذيتي، فسرعان ما أصبح ينبثق جنب في هذه، أو يتآكل فرش في تلك، وأنا أحتاج لتدبير المال فلن أضيعه على شراء أحذية جديدة! فأصبحت أتوقف عنده كثيرًا. لا أجلس، يتملكني قلق وتوتر دائمًا، أفكر فيما قيل لي بالأمس، وما سأفعل اليوم.. يهتف عم محمد في صوت ضعيف: "اجلس يا ولدي". صوته كأنه يأتي من مكان بعيد! أتردد كثيرًا ثم أجلس، أستمع إلى طرق أدواته الدقيقة على أحذيتي في صوت واهن بطيء. طاك.. طاك.. طاك. عندما أخرج من دكانه أوبخ نفسي، لو أني لم أجلس لانتهى من تصليح الأحذية في زمن أقل. أحث خطاي.. أسابق الزمن.

لم يكترث أحد بموته، ولم أر اثنين في شارعنا واقفين يتذاكران الرجل الطيب أبدًا! عندما سألت أبي، هز كتفيه وقال: "لا أدري"! وعندما قابلت محمود قال لي إنه لم تكن له جنازة، فليس له أهل ليتذكروه، أخذه أحد الصالحين ودفنه في مقابر الصدقة، وانتهى الأمر! هكذا حكوا له. قال إن هذا الحدث كان منذ وقت طويل جدًا. 

شارع السوق الذي أكرهه. يمضي محمود بجانبي يثرثر، لا أكاد أسمعه من فرط الزحام. نقابل أناسًا كثيرين في الطريق، وعندما نتوقف لنسلم على أحدهم أحس بثقل الهواء من حولنا! أعود أذكر العجوز الوحيد وأمتلئ حزنًا، أتخيل وسط ضباب الزحام والأصوات ذلك اليوم الحزين الذي سقط فيه على وجهه من على كرسيه، وغاب وجهه المتآكل بين الفرش والنعال، وحيدًا وحزينًا وبائسًا، ربما كان يحتاج إلى شربة ماء أخيرة، هي كل أمنيته في الحياة في تلك اللحظة التي توقف فيها الهواء في قصبته الهوائية ولم يرد أن يخرج! امتلأت طوال اليوم همًا حتى رجعنا، وفي تلك الليلة جاءني رسمه في الحلم، أنه يحدق فيّ بوجه بارد ميت بلا ملامح.. أركض بعيدًا بعيدًا ووجهه يطاردني.. ترتفع أنفاسي رعبًا ولا أستيقظ!

تزيد رغبتي في عدم الاقتراب من الشارع الجنوبي حتى أتعافى تمامًا. على كل حال لم يبق إلا أسبوع واحد وأعاود السفر إلى العمل، وما إن أصل إلى القاهرة إلا وسأنسى كل هذا، ويصبح غير ذي خطر حقيقي. أخذني محمود وجلست مع أصدقاء على قهوتنا القديمة. أمسك بذراع النرجيلة، ويندفع الدخان اللاذع في صدري ثم أزفره، يملؤني السكون، يرتفع الدخان في الهواء، يتكلم صاحبي كثيرًا، ويحكي عن أشياء كثيرة، نجلس لساعات، ويتكلم صاحبي، والدخان يلسع صدري ثم يرتفع في الهواء. يصيح صاحبي ساخرًا "أسطلت من الدخان؟! كيف يكون حالك إذا وضعنا قطعة من الحشيش إذن؟!". لا أرد عليه. 

شعرت ليلتها بأنني قد تعافيت تمامًا من كل شيء، وأنني أقوى من كل شيء. استأذنت في الانصراف ثم مضيت غير عابئ بمناداتهم ولا نظراتهم. ظللت أمشي لوقت طويل، وانفتح ثقب دقيق في حذائي، فوجدت قدمي تسوقانني ناحية الشارع الجنوبي، كانت الليلة ظلماء، وكانت قدماي ثقيلتين.. سأنظر إلى دكانه نظرة سريعة ثم سأمضي في طريقي، لا داعي لكثير من الدراما. عندما التفت إلى الشارع كان عمود الضوء القديم يسلط إضاءة مسرحية خافتة على الدكان، وعندما نظرت إلى الدكان كان كما هو! الإضاءة الذابلة، الأدوات المتناثرة، السلة الخشبية القديمة. وعم محمد الإسكافي، في الركن الأقصى من الدكان، منثني الظهر عاكف على حذاء في يده!

لدهشتي، لم أشعر في تلك اللحظة بأي نوع من الفرح أو الحنين، بل امتلأت خوفًا شديدًا. كان الأمر لديّ أشبه بأعجوبة من عالم آخر!

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز