عاجل
الأربعاء 1 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الحرب الروسية الأوكرانية.. قراءة ثقافية

الحرب الروسية الأوكرانية.. قراءة ثقافية

شهد عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حرصًا واضحًا من الدول الأوروبية على عدم تكرار ويلات الحرب على أراضيها، إذ إن العقل الأوروبي ظل مصدومًا في الإنسانية بسبب ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية، ظهر أثر ذلك بوضوح في مسرح العبث والفلسفات العدمية، التي تعيد قراءة الإنسان. 



وشهدت الحرب العالمية الثانية نصيبًا كبيرًا من الدماء، دفعته روسيا، أكبر بكثير مما دفعته الولايات المتحدة الأمريكية، وكان هذا هو معيار التقدم الاقتصادي وارتفاع معدلات الدخل القومي، ودخل الفرد، فالمنتصر الذي لا يدفع الدماء الغزيرة يحظى بوفرة أوضح. 

فهل تدرك أوروبا التي اتخذت مواقف متعددة ما بين السعي نحو الحلول الدبلوماسية وهي الأصوات الأقل، وما بين من يعلنون الاستنفار وهي الأصوات الأعلى، أن أرض المعركة ليست هي الولايات المتحدة الأمريكية وإنما أوروبا، وأن الخاسر الأكبر في الدماء سيكون في القارة التي تهدد الحروب خيال شعوبها، ولا تزال عدم الرغبة في الإنجاب واحدة من مظاهر الشعور بالألم والضياع الروحي الناجم عن ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية. 

يبدو أن الرئيس بوتين يدرك ذلك جيدًا، إذ إنه يعرف هذا الحرص الأوروبي الغربي على جعل الدماء بعيدة جدًا عن قرارات الصراع السياسي. 

إن الدفع العسكري المطرد خلال الفترة القريبة الماضية، بعتاد وجنود وإعادة انتشار قوات حلف الناتو في أوكرانيا، كان بمثابة الاستفزاز الأكبر لروسيا- بوتين، إذ إن العقل الأوروبي السياسي لا يصدق أن بوتين يريد تأمين حدوده مع أوكرانيا، وعدم تمكين حلف الناتو من تهديد مباشر لمناطق في العمق الروسي. 

إنه حقًا شبح هتلر القديم الذي لا يغادر خيال أوروبا. 

لم يصدق الناتو إمكانية قيام روسيا بعملية عسكرية، وظل في عقله السياسي أداء الحرب الباردة الطويل الذي يعتمد على قوة الردع، والتفاوض حول المكاسب ومناطق النفوذ. 

لكن قرار بوتين بالعملية العسكرية التي تستهدف ضم إقليم الدونباس يتجاوز قوة الردع القديمة إلى استخدام القوة العسكرية لاستعادة القدرة على الردع الفعال. 

وفي خطابه السياسي فإن بوتين يستخدم الثقافة في الحرب استخدامًا معاصرًا، يفهم بعمق مسألة الحرب والثقافة، فهو يقول: "إن أوكرانيا بالنسبة لنا ليست مجرد دولة مجاورة، إنما هي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وعالمنا الروحي". 

فهؤلاء هم رفاقنا وأقاربنا، من بينهم ليس فقط الزملاء والأصدقاء السابقون، ولكن أيضًا الأقارب، ومن تصلنا بهم صلات الرحم والقربى".

بوتين يستخدم مهارات السياسة الأمريكية المعاصرة في مسألة الحروب الأهلية المبنية على استقطاب سياسي حاد، مصدره الدين كما أوحى في اضطهاد الأرثوذكس في شرق أوكرانيا، مستندًا إلى الثقافة الروسية في الإقليم الذي يتحدث اللغة الروسية، ويميل إلى نمط الحياة الروسي، وهي العوامل الثقافية المعززة للانفصال، والدافعة للقتال.  

إن الانقسام السياسي في الإقليم القائم على تلك العوامل يشبه ما حدث في القرم، بهدوء أكثر، لأن الخلفية الثقافية والعلاقات التاريخية للبشر تقرر هذا الاختيار. 

ولذلك فما يبدو أوروبيًا ودوليًا في أوكرانيا، قد تأسس على صراع وحرب ثقافية صنعت استقطابًا اجتماعيًا حادًا، تم إدماجه في الصراع بين حلف الناتو والقوى الشرقية التقليدية، روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي، التي تحلم مع بوتين بعودة نفوذها الدولي القديم، مضافًا إليها قوة الصين المعاصرة الصاعدة، والتي ورثت نموذج الحزب الشيوعي الحاكم من الاتحاد السوفيتي المفكك، مع تطوير التعاطي مع الاقتصاد الحر. 

المدهش والمخيف معًا والمستحق للتأمل، أنه تم استخدام الاستقطاب الثقافي لإحداث معركة حقيقية تستعيد بها روسيا الاتحادية صياغة معادلات ما قبل الحرب الباردة، وفي استخدام مدهش للحقوق التاريخية والثقافة السلافية المشتركة. 

ما يؤكد أن مستصغر الشرر، في الاستقطاب الثقافي وصناعته وأثره على المجتمع أمر ممكن في القرن الحادي والعشرين، وهو ما حدث في شرق أوكرانيا، وما أمد بوتين بمبررات تحمل صيغة الأخلاق والتاريخ، رغم أنها معركة لا تزال محدودة، لكنها تؤكد أن إراقة الدماء هناك أمر ممكن في صراع النفوذ الدولي، في عالم يحاول استعادة تشكيل قواه وتوازناته. 

تبقى لنا الملاحظة المصرية الدبلوماسية بالدعوة للحوار، وعدم استخدام القوة، موقفًا مصريًا ينتهج رؤية ترى أن العالم لا يحتمل حربًا عالمية جديدة، رغم أن ما يدور الآن لم يكن ممكنًا في توقعات الخبراء والسياسيين، ما يعيد لنا التفكير في أشباح الدماء والحروب الكبرى. 

ولذلك فمحاولات الاستقطاب الثقافي المتعددة التي تستهدف مصر منذ عقود، بداية بالإسلام السياسي، انتهاء بالتشكيك في الثوابت الثقافية الدينية والأخلاقية، لهي أيضًا من مستصغر الشرر، بداية من أحاديث الجنسية المثلية العارضة، مرورًا بالدعوة لاستخدام الحق المطلق في إبداء الرأي، والاعتقاد دون تأمل الإطار المرجعي الثقافي والفكري الجامع للمصريين، وصولًا لإساءة استخدام التعددية الثقافية والطوائف، لهي أمور صغيرة لكنها خطرة، وقد نجحت مصر في الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي التاريخي للمصريين. 

حقًا إن الاستقطاب الثقافي هو المدخل الأكثر خطورة  لتفكيك الوحدة المجتمعية، وفتح الثغرات القاتلة. 

حقًا إننا في عالم هو قرية صغيرة واحدة، يكرر نماذج الكر والفر، والتوازنات المتعددة في صراع القوى العظمى على إدارة واحدة للعالم، باسم الحرية والتعددية الثقافية في عالم يصدمنا بشدة، عندما يلجأ للقوة المفرطة، بعد أن حاولت البشرية نسيان أشباح الحروب الكبرى، إلا أن القوة الثقافية والانسجام العام لأطياف القوميات المتعددة يبقى أقوى خطوط الدفاع، وهو الدرس الذي تعيه مصر جيدًا، ويدركه المصريون.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز