عاجل
الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
فقدان الأب

فقدان الأب

أكتب هذه السطور، بعد أسبوع من وفاة والدي رحمة الله عليه، تحركت أصابعي لكتابة كلماتها وبينما دموعي لم تجف بعد، حزنا على رحيل "أبويا"، ومن شدة صعوبة هذه المحنة لازالت تراودني حالة النكران، تراودني أحيانا أسئلة صعبة: هل حقا رحل والدي؟ هل لن أراه فعلا مرة أخرى؟ كيف أدخل البيت ولا أراه مرة أخرى؟ من يعوضني استقباله أو جلسة الكلام معه؟.. "اللهم لا راد لقضائك".



سطور أكتبها وأنا لازلت أبحث عن والدي في كل شىء حولي، في كل ركن بمنزلنا، أبحث عن رائحته في غرفته وسريره وكرسيه وملابسه، في كل صورة تحمل ذكرى له، أبحث عن صوته وأنا أتذكر كل نصيحة كان حريصا أن ينقلها لنا وأخواتي وأولادهم، أبحث عنه في كل شىء حتى في أوراق فحوصاته الطبية الأخيرة بالمستشفى.

 

قد يجد البعض أن هذه سطور عن  تجربة شخصية قاسية للغاية، هناك من سبقني وأن عاشها، وهناك من لم يتحمل قسوتها، وهناك من تجاوزها بفضل الله، لكنها قد تكون محاولة مني للتنفيس أو مجرد فضفضة أو هروب من محنة صعب وصفها بآلاف الكلمات، وفي نفس الوقت الاعتراف بحق وفضل والدي علينا وإخوتي.

 

"طول عمري كنت خايف من هذه اللحظة".. أبداً لم أسمح لعقلي أن يفكر فيها، وعن حالي وقتها أو حياتي بعدها، فرغم إيماني بقدر الله وأن الموت حقيقة وأنه كأس الكل شاربه، لكن لم أتصور قدرتي على تحمل مثل هذا الخبر.

أعترف بهروبي وخوفي الدائم من تلك اللحظة، لحظة إبلاغي (والدك أتوفى)، حتى تحول الأمر "لفوبيا" إذا تكرر اتصال إخوتي أو كرر أحد أفراد أسرتي الاتصال بي وأنا في عملي بالقاهرة.. حتى بعد أن ذُقت مرارة موت اثنين من إخوتي، زاد خوفي من هذه اللحظة لحظة إبلاغي بوفاة "أبويا".. فيا رب اربط على قلوب كل من فقدوا والديهم، فمهما وصفت أو كتبت لن أوصف شدة هذه المحنة.

كان أبي رحمة الله عليه مكافحا ومجاهدا في حياته مثابرا، صامدا.. هو خريج مدرسة الحياة: وأعني منها أنه عانى صغيرا وذاق الشقاء من صغره،  توفي والده (جدي) وأبي في عمر العامين، حتى إنه كان دائما ما يردد أنه لم ير والده من قبيل أن فرصة وجود الأب نعمة يجب على الأبناء أن تغتنمها.. من صغره وهو يعمل، جاهد وكافح "بعرق يده" ليس فقط من أجله بيته، ولكن أيضا للبناء، كان دؤوبا وطموحا باستمرار حتى فتح الله عليه في بيته وأرضه وعمله، وقبل ذلك تربية أولاده وتعليمهم، بل وتزويجهم.

في السنوات الأخيرة وبعد أن ظهر الشيب على وجه والدي، وبدأت قدرته الصحية في التراجع، تعرض لأصعب محنة ممكن أن يواجهها الأب، وهي وفاة اثنين من أولاده، حيث توفي شقيقي الأكبر فجأة، وبعدها بسنوات أخي الثاني، وهما أكثر اثنين كانا يعتمد عليهما في حياته، ورغم كسرة قلبه عليهما، كان حريصا على الثبات، لأنه يعلم أن الجميع يستمد قوته منه.. وقام بدور الأب لأحفاده تعويضا عن والديهم لرعايتهم وتربيتهم بأقصى درجات الود والحنان.

لم يمنعه مرضه أن يقوم بدور الأب والراعي، خصوصا لأحفاده اليتامى، قاوم بكل مثابرة شدة المرض وضعف الكِبر حتى يبدو لمن حوله أنه لازال ثابتًا وحارسًا أمينًا لأسرته.. ومع رحلة المرض الأخيرة التي امتدت لأكثر من ٣٢ يوما في غرفة العناية بالمستشفى اقتربت أكثر من تفاصيل ألمه الذي صبر عليه سنوات، وكنت أسأل كيف كان يتحامل مع كل هذه الأوجاع ونادرا ما كان يقبل بوجود طبيب للتشخيص والعلاج؟، كان عندي يقين وأمل في الله أن يأخذ بيده في هذه المحنة لكن كان أمر الله نافذا في النهاية.

قبل وفاة والدي بدقائق كنت إلى جواره في غرفة العناية بالمستشفى، أتابع وضعه الصحي كما اعتدنا على مدى أكثر من شهر في غرف العناية، لكن هذه المرة لم تكن كسابقيها، وقتها رأيت أن معظم الوظائف الحيوية قد تدهورت بل قد لجأ مشرفو الرعاية للتنفس الصناعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو ما لم يحدث من قبل.. وقتها وقفت ولا أستطيع أن أصف حالتي فالخوف والقلق واللهفة مشاعر حاضرة دوما، لكن الجديد أني وقفت وقفة "العاجز" الذي لا يملك من أمره شيئًا.. والأمر كل لله.

 

هذه المرة لم يكن رد فعلي كما كان من قبل لم أستطع أن أبحث عن طبيب أو استدعي طاقم التمريض، ربما صعوبة الوضع شلت تفكيري وحركتي، وكل ما فعلته وقفت مستسلما، وناديت عليه النداء الأخير (يا حج قُل لا إله إلا الله) حاولت أرددها عليه، مؤمنا بقدرة الله أن يقول للشيء كن فيكون ويستعيد استقراره الصحي.

لكن هيهات هيهات لما كنتم توعدون، أخرجني طاقم التمريض بحجة أنهم يريدون بعض المستلزمات لوالدي، وما هي إلا دقائق معدودة وجاءني اتصالهم (البقاء لله.. الحج اتوفى).

صدمة هذا الخبر رغم كثرة مقدماته، لم تستطع قدماي أن تحملاني من شدة وطأته، سقطت على الأرض ولا أدري ماذا كنت أقول أو من بجانبي، ما أتذكره أني لم أستطع الوقوف فترة ليست قليلة حتى ألقي نظرتي الأخيرة عليه، وما أن دخلت عليه وجدته بنفس وضعيته التي تركته عليها في لحظاته الأخيرة، كان رحمة الله عليه رافعا نظره للسماء، يرى ما لا نرى، إحقاقا لقوله تعالى (فبصرك اليوم حديد).. فقد كانت هذه النظرة المصحوبة بابتسامته البسيطة المعتادة مع كل شدة واجهها في حياته آخر مشاهده من الدنيا ليلقى ربه راضيا مرضيا.

بعد الوفاة كل شيء مرّ بسرعة، حتى شُيع جثمان والدي، وقبل أن يُغلق باب القبر عليه، حرصت على توديعه بنظرة أخيرة، ولسان حالي "أني قد دفنت قلبي قبل أن أدفن جسده الطاهر"، هذه لحظات ربما لم أكن بكامل وعي فيها أو مدركا لباقي تفاصيلها، فكل ما كان مسيطرا عليّ هو كيف ستكون حياتنا بدون وجود "أبويا"؟!

ما أستطيع أن أذكره أن حياتي قبل وفاتك يا أبي ليست كبعدها، الآن أصبح كل شيء بيني وبينك مجرد ذكرى، بل والأصعب عندما أستعيد آخر كلماته لي في المستشفى، آخر طلب له وآخر نظرة لي، وآخر مرة قبض بيده على يدي، كلها مشاهد لن تغيب.

 

في العزاء، دائما ما نردد كلمات للتخفيف على أهل وأسر المتوفى في محنتهم، منها مثلا "أننا جميعا سنموت أو أنه في مكان أفضل، وكل من عليها فان..إلخ، لكن أبدا لا يوجد من يخفف علينا مرارة الفقدان، خصوصا فقدان الأب.

أجاهد نفسي، ولازلت، أن أصف معنى فقدان الأب، كثير من المحيطين بنا تعدد وصفهم لتلك المحنة، لكن ما أستطيع أن أقوله إني أشبه بالشخص الذي بات "عاريا"، نعم وكأني عارٍ في شدة البرد، شخص بلا ظهر، فقد مصدر حمايته وقوته، شخص كُسر ظهره وقلة حيلته، أصبحت كالطفل التائه في مكان غريب، الآن أصبحت أكثر خوفا مما سبق، أنام بصعوبة من شدة الخوف والقلق والتفكير.. كثير من تفاصيل الحياة فقدت معناها، أصبح كل شيء عاديًا بلا طعم.

لا أبالغ بهذه الأوصاف لكنها جزء من الحقيقة المُرة.. بل الأصعب منها نظرات أمي وجميع إخوتي وأسرتي وهم يحاولون أن يستمدوا الدعم والثقة مني في هذه المحنة، لكن كيف وفاقد الشيء لا يعطيه؟.. الآن أدركت معنى كلمة "وجود حِسّ أبويا في الدنيا"، فوجوده حتى لو كان راقدا كافيا لكل من حوله.

 

ربما هذه بعض كلماتي عن والدي رحمة الله عليه وليست كلها، وهذه من حقه عليّ، فهناك عشرات الحكايات التي لن تنسى معه، لكن العزاء الوحيد لي في وفاتك يا أبي هو صورتك الأخيرة فقد كانت أبلغ تفسير للآية الكريمة (يوم تبيض وجوه)، فمن شدة بياض وجه وابتسامة الرضا على وجهه نحسبها حُسن خاتمه، لرجل عاش حياته طيبا خلوقا مكافحا صابرا مثابرا، فأجمع كل من عرفوه على سيرته الطيبة.

 

سأظل مدينا لك يا أبي بكل شيء قدمته لي ولإخوتي، سأظل مدينا لك بسيرتك التي نتشرف بها أمام الجميع.. لا نملك إلا قول إنا لله وإنا إليه راجعون، ونحسبك من أهل الجنة.

وداعًا يا أعز الناس.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز