
حكاية طيرت النوم من عيون "فوزية مهران"

عادل عبدالمحسن
نشرت مجلة "روزاليوسف"، منذ 50 عامًا سلسلة موضوعات صحفية للكاتبة فوزية مهران، تحت عنوان "حواديت رمضان”، وفي واحد من تلك الموضوعات كتبت موضوعًا بعنوان "يونس في الحوت".
يونس في الحوت
قالت فوزية مهران: حكاية قديمة، سمعتها في طفولتي عرفتها أمي عن جدتها، كانت تحكيها لي قبل النوم، طار النوم من عيني، وعرفت كيف أعانق الأرق، والقلق كل ليلة.
والحكاية هذا الأسبوع عن الرسول يونس. وقصته مع الحوت، وكيف عاش بداخله، ثم كيف خرج ثانية! وفي رمضان تحلو الحكايات ويصبح الحديث ذا شجون!
في رمضان يتم أبي دائمًا قراءة القرآن.
وفي تلك الليالي الروحية، المشبعة بنور التقوى، والمحبة، كنت أقترب منه أنصت لكلمات لها وقع السحر، وأتأمل ذلك السلام النفسي الذي يشيع في الجو.
لم أكن أعرف بعد سر الحروف، ولا معنى الكلمات.
وفرح أبي لإصغائي، وانجذابي، وفي تلك الليالي البعيدة، المليئة كنا نحكى كل ليلة حكاية قصص أنبياء، حكايات عن المؤمنين والكفار، صراع الحياة ذاتها مع الخير والشر، ووقعت في هوى قصة رائعة.
كنت أفعل أي شيء، في سبيل أن يحيكها لي أبى كل ليلة. قصة يونس ذلك النبي الإنسان، يئس من أهل قريته، لقد انصرفوا عنه ولم يستمعوا إلى دعوته، فضاق بهم، وضاق برسالته إذ القوم كأنهم صم بكم لا يعقلون.
وفكر في الهرب، إلى الشاطئ، وحشر نفسه داخل سفينة مزدحمة بالناس. جرت السفينة، وحسب أنه تخفف من كل شيء، هرب واستراح، ولكن هبت العاصفة، وتلاعب الموج بالسفينة، وحام حولها الموت والهلاك، وقال الركاب لا بد من وجود خاطئ بيننا، مذنب رهيب جلب اللعنة على السفينة، ولا بد أن نلقيه في البحر حتى تحل عنا اللعنة وتكتب لنا السلامة.
وأخذوا يبحثون، حتى وجدوه.
يونس، «وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن ألن لن نقدر عليه»، وألقى به البحارة من فوق ظهر السفينة.
وابتلعه الحوت، أقام في قلب الحوت ليالي طوالا، وحيدا في ظلمة ليس لها قرار، ندم، وتاب ونادى في الظلمات «أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين»، وظلت القصة أمامي دائمًا «موحية» ومليئة بالمعاني والرموز، والخيال.
وأصبحت حلمًا مقيمًا وتفكيرًا دائمًا، في البداية كانت غرابتها تشدني، ونهايتها تريح قلقي الغامض وتحنو على توتري وخوفي. وفي بداية الشباب والانفتاح على الحياة روعتني المغامرة في هذه القصة المثيرة. إنسان يهرب من الله، يتخلى عن رسالته ودعوته، ييأس من قومه الكافرين، فيهرب ولكن إلى أين؟! وهل هناك مخرج، لا مفر إذن.
خطيئته تتبعه، عمله يمسك به، الضيق والعذاب أين شاطئ النجاة لهما؟، تبعته اللعنة المقدسة على ظهر السفينة، وأمسكوا به جميعًا ويلقونه إلى البحر، إلى حلق الحوت الهائل.
وهناك يواجه الإنسان وحيدا محنته، يواجه نفسه، محاكمة الضمير، وإذا تحمل الإنسان المواجهة بصدق، فإنها بداية الخلاص. وبعد الاعتراف تأتي مرحلة الندم، والندم يطهر النفس، يغسلها، تتطهر تعود وكأنها ولدت من جديد، يتوب، ويشعر بالقوة والأمل، وتتم معجزة الخلاص، والإنقاذ، مغامرة نفسية رائعة، رحلة خطرة تستهوي القلب، وتبهر الحس وتهز الوجدان.
وكلما تقدم بنا العمر، وطحنتنا الأيام أجد في قصة يونس حكمة وعبرة، مثالا للإنسان الذي تحصن في الإيمان، مثالا لقوة الإيمان عندما يهوى الإنسان إلى الظلمات ولا يجد عونا ويستولى عليه اليأس ولا يجد أمامه سبيلا إلى الخلاص، لا يبقى له سوى الإيمان، والصمود والتمسك بالمبدأ والرجوع إلى الحق.
"فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون". تعجبني قصة النبي البحري الكريم، أعود إليها كلما ضاقت بي الدنيا، وأحسست بنفسي أغوص في دوامة العذاب والأحزان، عندما تفزعني الوحدة والقسوة، وتتكاتف الظلمات.
ودائمًا أعود إليها، أتلوها وأرفع صوتي بها، أتخذه قدوة، ساعة الشدة، وأملأ وسط الضباب. يجب ألا يفقد الإنسان الأمل ولا يعرف اليأس طريقا إلى قلبه.
ولم يقف الأمر إلى حد الإعجاب والتمثيل، بل وجدت نفسي أبحث عن كل جوانب القصة، وأحلل الجوانب الاجتماعية والفكرية في تلك الحادثة، وشخصية النبي الذي ورد ذكره في الكتب السماوية كلها وعلى نفس الدرجة من الأهمية والوضوح. والذي ألهم الفنانين والكتاب والشعراءـ على مدى العصور -في القديم والحديث عالما كاملا من القصائد، والآثار الفنية، والقصص الرائعة.
النبي محمد كان يتخذه قوة عند الشدة، وفي سورة القلم «فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم». والمسيح أيضًا يشبه نفسه به، ومن التقاليد المسيحية القديمة رسم صورة يونس وهو خارج من بطن الحوت على جدران القبور تحت الأرض، كذلك زين النصارى لحودهم بصورة يونس رمزًا ليوم القيامة، وإثباتا لمعجزة البحث، أو الخروج من القبر كما خرج يونس من الحوت برحمة الله.
ورسم كثير من فناني أوروبا قديمًا صورة يونس على أعمدة الكنائس في العصور الوسطى وكثير من المنابر في الكنائس القديمة كان على شكل حوت يقف الواعظ في الفم المفتوح يلقي موعظته، ويمجد اسم الله، ويوصى قومه بالتمسك بالإيمان حتى ينجيهم وبهم من الشرور كما نجى يونس من الظلمات، كذلك كان يقام نوع من المسرحيات الدينية في الكنائس لصاحبها موسيقى تمثل نفس أحداث القصة.
وتوجد قصيدة قديمة من الحبشة تتغنى بالدعاء للنجاة، وتذكر يونس وتقول بعض أبياتها: يا من أخرج يونس من حلق الحوت الهائل عندما دعا إليك رافعا صوته يا الله يا حي يا يقظان، يا خالق يا من لا تنام. أخرجني بحكمتك من باب السيف الصارم فإنك الله العادل الرحيم.
وقد جذبت القصة انتباه الفن أيضًا في العصر الحديث، وتناولها كثير من الكتاب الألمان المعاصرين، ووزعت قصة ستيفان أندرس عام 1963 رقمًا قياسيًا.
وألف «رودلف أوتوهيمر» ثلاثية تدور أحداثها كلها حول قصة يونس. «مكالمة يونس» و«يونس في الحوت»، والثالثة «الرجل الذي هرب من الله».
وقد فسر أحد علماء النفس المعاصرين رمز يونس على أنه يمثل إنسان القرن العشرين، يعيش في خوف ورهبة، يجتاز الصراع المضنى بين التقدم المادي، وحاجته الروحية، وبعد مفقودًا في متاهات وظلمات لا يكاد يرى فيها طريقه في حين استولى عليه القلق واليأس.
وهذا يمثل حاجة الإنسان إلى الإيمان. وكثير من المتصوفين والكتاب يميلون إلى مثل هذا التفسير السيكولوجي. فعندهم أن الأديب والمتصوف لا بد له من لحظات وحدة، وحدة نفسية عميقة يصل فيها الإنسان إلى أعماقه، ويكتشف ذاته الحقيقية، إنها عملية تطهير وسيادة على النفس عندما يعود منها إلى واقع الحياة، يعود قويا، جديدا، أكثر إنسانية وحبا للحياة. وكان الحلاج يقول أحيانًا: «كل ما قمت به من حركة الآن هو الخروج من وحدتي إلى وحدتي».
ويقول ألبير كامئ: على الفنان أن يفرض على نفسه العزلة والانفراد، ولكن يتعين عليه في الوقت نفسه أن يحفظ صلته بالناس وارتباطه بالجماهير فلا سبيل لإهمال هذه الصلة على نحو ما أراد يونس أن يهمل أهل قرية نينوى. إن أهل قرية نينوي، التي يئس يونس من إرجاعها عن الكفر، لم تلبث أن ردت إلى صوابها، فآمنوا وكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».
وهكذا تأتى المعجزة على مستوى الفرد والجماعة، وتتم فصول الحادثة النفسية على مستوى الشخص وتعمقه لتفهم حقيقة أفكاره ورغباته، واكتشاف الموقف الجدير به، والتشبث بالأمل والإيمان.
والجماهير عندما تلتحم وتتآلف، وتتعمق نظراتها للأحداث، فتقف مؤمنة صامدة تعرف طريق الخلاص. في ليالي رمضان تحلو القصص والحكايات، مواقف البطولة والفداء، وترتفع أمامنا صور ناصعة من تاريخنا، وكفاحنا، وعبر تتناثر كالجواهر فوق صفحات التاريخ، ليس أكثر من أن تعيها عقولنا، وتشع بنور الأمل حولنا، فنعمل من أجل تحقيق الآمال والأحلام.