عاجل
السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
الصـلاة الوسطى

الصـلاة الوسطى

بقلم : د. جمال الهلفي

الصلاة عماد الدين ، وأول أركان الإسلام " العملية " وهي الركن الذي فرض في حضرة الذات العلوية ، وهي معراج المؤمن في كل يوم وليلة إلى ربه وهي أيضاً عهده معه لدخول الجنة ، لما جاء عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ وَقَدْ أَكْمَلَهُنَّ وَلَمْ يَنْتَقِصْهُنَّ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ».



وقد أخفى الله سبحانه وتعالى بعض الأمور والآيات عن خلقه ، رحمة بهم وحثًا لهم على الجد والاجتهاد  في تحصيل الأجر والثواب ، ومن هذه الآيات ما لم يسمح بالاجتهاد فيها ، فقطع علم تحديدها عن البشر، وجعل علمها مغيباً عنده سبحانه وتعالى مثل يوم القيامة ، ولكن جعل له مقدمات وعلامات تدل عليه ، فأجاز للعلماء الاجتهاد في جمعها ، وبيانها للناس ، للاستعداد له بالعمل الصالح .

ومنها ما لم يجعل له علامة ولا مقدمة ، وجعله بغتة وهو ساعة الموت ، وهذا من رحمة الله بالخلق ، فقال سبحانه وتعالى : " اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا " وقال أيضاً :" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ "

 ومن هذه الآيات ما أباح الله بالاجتهاد في تحديده طلباً لإدراك الفضل ، وسعياً في تحصيل الأجر، ومنها ليلة القدر قال تعالى:" . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ .

ومنها ساعة الإجابة في يوم الجمعة فقد جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اليَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ القِيَامَةِ ، وَاليَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ ، وَمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلاَ غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ ، فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ ، وَلاَ يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْهُ.

ومنها الصلاة الوسطي قال تعالى :  حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ .

فقد أمر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بالمحافظة على الصلاة وهذا الأمر ينتظم القيام بها ، واستيفاء فروضها ، وحفظ حدودها ، وعدم التقصير فيها ، لأن المحافظة هي المداومة على الشيء ، والمواظبة عليه .

فإن قيل : المحافظة مفاعلة وهي لا تكون إلا بين اثنين كالمخاصمة والمصالحة فكيف يكون المعنى ها هنا ؟  أجيب على ذلك من ناحيتين :

الناحية الأولى : إن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب ، وكأن الله تعالى يقول للعبد : احفظ الصلاة ليحفظك الإله  الذي أمرك بها كقوله تعالى : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " وكما جاء في الحديث القدسي عن ِأَبِي هُرَيْرَةَ ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ.

الناحية الثانية : إن هذه المحافظة تكون بين الصلاة والعبد المصلى فكأن الله تعالى يقول للعبد احفظ الصلاة تحفظك الصلاة ، كما جاء في وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ : يَا غُلَامُ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِنَّ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ .

وحفظ الصلاة للعبد تكون على ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : الصلاة تحفظ العبد المصلى عن المعاصي ومنه قوله تعالى : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ "  فمن حفظ الصلاة  وحافظ عليها حفظته الصلاة من الفحشاء والوقوع فيها .

الوجه الثاني : الصلاة تحفظ العبد من البلايا وتعينه على اجتياز المحن ومنه قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " وقوله تعالى " وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ "  أي معكم بالنصرة والحفظ .

الوجه الثالث : الصلاة تحفظ صاحبها وتشفع له يقول الله تعالى:" وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ  "  .

والصلاة اسم مصدر لصلى ، والمصدر التصلية ، وأصلها صلوة بوزن "فعلة" بدليل جمعها على صلوات ،وهي مأخوذة من صليت العود بالنار ـ بالتخفيف ــ إذا عطفته ، وذلك لانعطاف أعضاء المصلى، أو من صليت بالتشديد إذا حركت الصلوين ، وهما عرقان في جانبي الخاصرتين ينحنيان عند انحناء المصلى.

والصلاة الدعاء وهو بعض أجزائها ، ومنه قوله تعالى : " وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ "  أي ادع لهم .

والصلاة التعظيم ، وسميت بذلك لما فيها من تعظيم الرب سبحانه وتعالى ، والصلاة التسبيح ومنه قوله تعالى " فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " أي من المصلين ، ومنه أيضاً سبحة الضحى أي صلاة الضحى .

والصلاة والعبادة ومنه قوله تعالى : وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً " أي عبادتهم.

وقد اختلف العلماء في تحديدها على النحو التالي :

المذهب الأول : الصلاة الوسطى صلاة الظهر  وروى هذا عن عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر والصديقة بنت الصديق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم جميعًا ، وإليه ذهب الحنفية.

وذلك لما يأتي :

أولاً : إن صلاة الظهر كانت أشق الصلوات على المسلمين لوقوعها في وقت القيلولة ، وشدة الحر ، واحتياجهم إلى الراحة في هذا الوقت بعد العناء والتعب من العمل ، فنبه الله إليها ، وبالغ في المحافظة عليها ، ويؤيد هذا ويؤكده ما روى عن أبى ذئب عن الزبرقان : أن رهطاً من قريش مر بهم زيد بن ثابت ، وهم مجتمعون ، فقام إليه رجلان منهم فسألاه  عن الصلاة الوسطى فقال : هي الظهر ، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد ، فسألاه ، فقال : هي الظهر ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف والصفان من الناس في قائلتهم وفي تجارتهم فأنزل الله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ }

ثانيـــًا : ما روى عن أَبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَنَافِعٌ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ نَافِعٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَدَّثَهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ فِي عَهْدِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَاسْتَكْتَبَتْنِي حَفْصَةُ مُصْحَفًا وَقَالَتْ لِي: إِذَا بَلَغْتَ هَذِهِ الآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَلا تَكْتُبْهَا حَتَّى تَأْتِيَنِي بِهَا فَأُمْلِيهَا عَلَيْكَ كَمَا حَفَظْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَلَمَّا بَلَغْتُهَا جِئْتُ بِالْوَرَقَةِ الَّتِي أَكْتُبُهَا فَقَالَتِ اكْتُبْ: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَصَلاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ.

وقال من استشهد بهذا : إن أم المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما  قد عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى ، والمعطوف غير المعطوف عليه ، فدل هذا على كون الصلاة الوسطى غير صلاة العصر ، ثم إن المعطوف عليه يكون  قبل المعطوف ، والتي قبل العصر هي صلاة الظهر .
 

واعترض ابن حزم على هذا الدليل وتمسكهم بهذه الزيادة فقال : " من العجب احتجاجكم بهذه الزيادة التي أنتم مجمعون معنا على أنه لا يحل لأحد أن يقرأ بها ، ولا أن يكتبها في مصحفه ، وفى هذا بيان أنها روايات لا تقوم بها حجة .  

ثم إن العطف الذي يتمسكون به إنما هو من قبيل عطف الصفة على الصفة كما في قوله تعالى " مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ " فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين .

أو تكون هذه الواو زائدة وليست للعطف كما في قوله تعالى :وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .

ثالثاً : صلاة الظهر وسط بين صلاتين نهاريتين هما الفجر والعصر، كما أنها وسط النهار ، وليس في الصلوات المكتوبات صلاة تقع في وسط الليل أو النهار غيرها .

رابعاً : أن صلاة الجمعة هي أشرف الصلوات ، وأفضلها إذ أمر الحق سبحانه وتعالى إلى الإسراع إليها ، وحرم الاشتغال بالبيع والشراء في وقتها ، وقد حلت هذه الصلاة في صلاة الظهر دون غيرها ، وما ذلك إلا لشرفها وقدرها ، فدل على أنها الصلاة الوسطى . 

المذهب الثاني :الصلاة الوسطى هي صلاة العصر وروى هذا عن على بن أبى طالب ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبى هريرة ، والسيدة عائشة رضي الله عنهم جميعا، وبه قال إبراهيم النخعي وقتادة ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري  ، وإليه ذهب  الشافعي  والإمام أحمد بن حنبل  وأبو حنيفة في رواية عنه  وعبد الملك بن حبيب من المالكية  ، وابن حزم ، وداود الظاهري  ، واختاره ابن العربي ، وابن عطية واستدلوا على ذلك بما يأتي : ـ

الدليل الأول : ما روى عن عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى، سَمِعَ عَلِيًّا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ»، أَوْ قَالَ: «قُبُورَهُمْ وَبُطُونَهُمْ نَارًا»

الدليل الثاني :  إن الوسطى إذا كانت بمعنى الفضلى فإن صلاة العصر قد ورد في تفضيلها ما لم يرد في غيرها من الصلوات ، فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بها في سورة خاصة بها فقال : " وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، وجاء عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ بِالْمُخَمَّصِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ » وَالشَّاهِدُ: النَّجْمُ. والمراد حتى يدخل وقت المغرب .

الدليل الثالث : إن كانت الوسطى بمعنى الوسط فصلاة العصر تتوسط الصلوات الخمس إذ أنها تقع بين صلاتين نهاريتين وهما الصبح والظهر ، وصلاتين ليليتين وهما المغرب والعشاء  وقال النحاس : لأنها تقع بين صلاتين إحداهما أول  ما فرض وهي الظهر والأخرى الثالثة مما فرض وهي المغرب .

الدليل الرابع : صلاة العصر أصعب الصلوات ، في المحافظة عليها لأمرين : ـ

الأمر الأول : صعوبة تحديد وقتها دون غيرها من الصلوات فصلاة الصبح يكون وقتها بطلوع الفجر المستطير ضوءه ، وصلاة الظهر بظهور الزوال ، والمغرب بغروب قرص الشمس ، والعشاء بمغيب الشفق ، أما صلاة العصر فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق ، وتأمل عظيم في حال الظل  ، ولما كانت  معرفة وقتها اشق ، كانت الفضيلة فيها أكثر ، والترغيب فيها أكبر.

الأمر الثاني : صلاة العصر تأتي في وقت انشغال الناس في أعمالهم ، أو انغماسهم في ملاهيهم ولذا فإن الإقبال عليها يكون أشق ، فكان صرف التأكيد إليها أقرب والترغيب فيها أولى.

المذهب الثالث : الصلاة الوسطى صلاة المغرب وروى هذا عن ابن عباس، وأبو عبيدة السلمانى ، وقبيصة بن ذؤيب وذلك لما يأتي : ـ

 أولا : إذا كانت الوسطى بمعنى التوسط بين الشيئين فهذا المعنى متحقق في صلاة المغرب، لأنها تقع في وقت وسط بين بياض النهار وسواد الليل ، وهي أيضا وسط بين الصلوات السرية والجهرية فقبلها صلاتي سر هما الظهر والعصر وبعدها صلاتي جهر هما العشاء والفجر .

كما أنها وسط بين الصلوات من حيث عــــدد الركعـــات لأن ركعاتهـــا ثـــلاث ، فهي وســـط بين الصلـــوات الرباعيـة كالظهر  والعصر والعشاء ، وبين الصلاة الثنائية وهي صلاة الفجر.

كما أنها أيضا تقع في مكان وسط بين الصلوات ، لأن صلاة الظهر إذا كانت هي الصلاة الأولى ، فإن المغرب تكون هي الوسطى لا محالة ، لأنه يكون قبلها صلاتين هما الظهر والعصر ، وبعدها صلاتين هما العشاء والفجر.

مناقشة هذا الدليل : إن الوسطى بهذا المعنى متحقق في جميع الصلوات ، لأن الصلوات خمس والوسطى هي الثالثة منها ، فإن بدأت بالصبح كانت الوسطى هي العصر ، وإن بدأت بالظهر كانت الوسطى هي المغرب وإن بدأت بالعصر كانت الوسطى هي العشاء وكذلك سائر الصلوات ، فليس في هذا دليل لإحداهن على الأخرى ، ثم إن هذا لا يقوى على أن يعارض صريح الدليل الذي ورد في شأنها وهو الحديث الصحيح " شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" .  

ثانيـــاً : وإذا كانت الوسطى بمعنى الفضلى  فإن هذا المعنى يكون أيضـــًا في صلاة المغرب ، لأن من فضلها أنها وتر والله وتر يحب الوتر ، ولأنها لا تقبل القصر ، ولأنها تصلى في أول وقتها في جميع الأمصار والأعصار  ، و تقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال  : " إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب ، لم يحطها الله عن مسافر ولا مقيم ، فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلاة النهار ، فمن صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين بني الله له قصرا في الجنة .

مناقشة هذا الدليل : قال العراقي: عن هذا الحديث إسناده ضعيف ومع هذا لا يصلح لإثبات كون الصلاة الوسطى هي المغرب ولا يخرج عن كونه مرغباً فيها .

المذهب الرابـع :   الصلاة الوسطى صلاة العشاء ، نسب هذا المذهب إلى بعض العلماء

وذلك لأنها تجيء في وقت نوم ، وهي أشد الصلوات على المنافقين ، ويستحب تأخيرها وذلك شاق ، فوقع التأكيد في المحافظة عليها كما جاء عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَقَالَ حِينَ خَرَجَ: «إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ»

المذهب الخامس : الصلاة الوسطى صلاة الصبح وروى هذا عن عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله ، وعطاء ، وعكرمة ومجاهد، والربيع بن أنس وإليه ذهب المالكية والشافعية  .

وذلك لما يأتي :

الدليل الأول : أن الله سبحانه وتعالى يقول : حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ " فقد قرن الله سبحانه وتعالى هذه الصلاة بالقنوت ، وليس في الشرع صلاة ثبت بالأخبار الصحاح القنوت فيها إلا صلاة الصبح .  

مناقشة هذا الدليل : إَن الْقُنُوت الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى { وَقومُوا لله قَانِتِينَ} بِصُورَة الْأَمر هُوَ السُّكُوت عَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة ، لأَنهم كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا ، وَلَيْسَ هُوَ الْقُنُوت المعهود فِي صَلَاة الصُّبْح .

الدليل الثاني :  أن الله سبحانه وتعالى يقول في حقها : " وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا " وقد ثبت بالتواتر أن المراد منه صلاة الفجر ، وإنما جعلها مشهودة لأنها تؤدى بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار ، وهذه الآية تدل على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر لأمرين :

الأمر الأول  : أن الله سبحانه وتعالى أفرد صلاة الفجر بالذكر ، فـدل هذا على مزيد فضلها ، ثم إنه تعالى خص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد ، فيغلب على الظن أن الصلاة الوسطى هي الفجر  .

الأمر الثاني : أن الملائكة  تتعاقب بالليل والنهار وتجتمع في صلاة الفجر وبهذا تكون صلاة الفجر قد أخذت بطرفي الليل  والنهار ، فكانت كالشيء المتوسط ، ولذا كانت الصلاة الوسطى .

مناقشة هذا الدليل :  يمكن الجواب عن هذا الدليل من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن قوله تعالى : " وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا " ليس فيه بيان أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أمر في هذه الآية بغير الفجر ، كما أمر بالفجر قال تعالى : " أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا " فالأمر بجميع الصلوات سواء .

الوجه الثاني  :إن قوله تعالى :  " إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا " ليس فيه دليل على أن قرآن غير الفجر من الصلوات ليس مشهودا حاشا لله من هذا بل كله مشهود بلا شك .

الوجه الثالث : إن كون الملائكة تتعاقب في صلاة الفجر ، ليس دليلاً على أنها الصلاة الوسطى ، لأنها لا تنفرد به ، بل يشاركها في هذا صلاة العصر ، فإن الملائكة تتعاقب فيها أيضاً .

الدليل الثالث :  أن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بها في كتابه فقال : " وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ " وذلك يدل على كبير فضلها ، وعظيم  قدرها ، فأشبهت أن تكون الصلاة الوسطى "  

مناقشة هذا الدليل : إن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بغيرها من الصلوات أيضاً فقد أقسم بصلاة العصر، وتتقدم العصر على صلاة الفجر من حيث أن القسم في العصر كان خاصاً بها فقط ، وأما القسم في الفجر فشاركها فيه غيرها كالشفع  والوتر.

الدليل الرابع : أن صلاة الصبح أشبه الصلوات بالوسطية التي تنص عليها الآية الكريمة فهي تصلى في الغلس ، فأولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل ، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار ، وهي أيضا تؤدى بعد طلوع الصبح وقبل طلوع شمس النهار ، وهذا القدر من الزمان لا تكون الظلمة فيه تامة ، ولا يكون الضوء أيضاً كاملاً ، فكأنه ليس بليل ولا نهار فهو متوسط بينهما  .

مناقشة هذا الدليــل :إن هذا لا يعد دليلاً على أن الصلاة الوسطى هي الفجر ، لأن المغرب  تشاركها في هذا فهي تصلى في وقت إدبار النهار وإقبال الليل حين لا يكون الضوء تاماً ولا الظلمة كاملة " 

الدليل الخامس : ما رواه النسائي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَدْلَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَرَّسَ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ بَعْضُهَا، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى وَهِيَ صَلَاةُ الْوُسْطَى»

مناقشة هذا الدليل :إن هذا لا يصلح دليلا على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح من وجهين :

الوجه الأول : إن ما روى من قوله في هذا الخبر وهي صلاة الوسطى يحتمل أن يكون من المدرج، وليس من قول ابن عباس ، ويحتمل أن يكون من قوله ، وقد روى إسحاق عن زيد بن عبيد عن ابن عباس قال : سمعته يقول : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " قال "صلاة العصر ، وهذا صريح لا يتطرق إليه من الاحتمال ما يتطرق إلى هذا الدليل فلا يعارضه.

الوجه الثاني : ما تقرر من القاعدة أن الاعتبار عند مخالفة الراوي روايته بما روى لا بما رأى ، فقد أخرج عَنْهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدُوًّا فَلَمْ يَفْرَغْ مِنْهُمْ حَتَّى أَخَّرَ الْعَصْرَ عَنْ وَقْتِهَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُمَّ مَنْ حَبَسَنَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى امْلَأْ بُيُوتَهُمْ نَارًا أَوْ قُبُورَهُمْ نَارًا.

الدليل السادس : أن صلاة الصبح تأتى في وقت مشقة ، لأنها تقع في وقت هو ألذ أوقات النوم ، حتى أن العرب كانت تسمى نوم الفجر العسيلة للذته ، وذلك بسبب قصر الليل في الصيف ، وفى الشتاء بسبب البرد ودفء الفراش ، وفتور الأعضاء  ، فلا شك أن العدول عن ذلك إلى استعمال الماء البارد ، والخروج إلى المسجد للتأهب للصلاة صعب على النفس ، فيجب أن تكون صلاة الصبح هي الصلاة الوسطى إذ هي أشد الصلوات حاجة إلى التأكيد  .

اعترض ابن حزم على هذا الدليل فقال : " هذا لا دليل  فيه أصلاً على أنها الوسطى والظهر يشتد فيها الحر حتى  تكون أصعب الصلوات كما قال زيد بن ثابت  .

الدليل السابع : إن صلاة الصبح أفضل الصلوات ، ولذا فتكون هي الصلاة الوسطى ، والوسطى هنا بمعنى الفضلى ، وإنما تكون أفضل الصلواة لوجوه : ـ

الوجــه الأول :    قوله تعالى  :" الصابرين والصادقين  " إلى قوله تعالى: "والمستغفرين بالأسحار "  فجعل ختم طاعاتهم الشريفة وعباداتهم الكاملة بذكر كونهم مستغرفين بالأسحار ، ثم إن أعظم أنواع الاستغفار هو أداء الفرض ، لقوله على الصلاة والسلام حاكيا عن ربه تعالى : " لن يتقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما أفترضت عليهم " وذلك يقتضى أن أفضل الطاعات بعد الإيمان هو صلاة الصبح .

الوجه الثانى : ما روى فيها أن التكبيرة الآولى منها مع الجماعة خير من الدنيا وما فيها.

الوجه الثالث : أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن صلاة الصبح مخصوصة بالآذان مرتين : مرة قبل طلوع الفجر ، ومرة أخرى بعده ، وذلك لأن المقصـــود مــــن المرة الأولى إيقاظ الناس حتى يقوموا ويتشمروا للوضوء  .

الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى سماها بأسماء فقال في سورة الإسراء  "وقرآن الفجر"  وقال في النور : " من قبل صلاة الفجر"  وقال في الروم "وحين تصبحون "  وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " المراد من قوله تعالى : " وإدبار النجوم"  صلاة الفجر .

الوجه الخامس : أن التثويب في آذان الصبح معتبر ، وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين الصلاة خير من النوم مرتين ، ومثل هذا التأكيد غير حاصل في سائر الصلوات . 

الوجه السادس :  أن الإنسان إذا قام من نومه فكأنه كان معدوما ثم صار موجودا ، أو كان ميتا ثم صار حيا ، بل كأن الخلق كانوا في الليل أمواتا ، فصاروا أحياء فإذا قاموا من منامهم وشاهدوا هذا الأمر العظيم من كمال قدرة الله ورحمته حيث أزال عنهم ظلمة الليل ، وظلمة النوم والغفلة وظلمة العجز والحيرة ، وأبدل الكل بالإحسان ، فملأ العالم من النور و الأبدان من قوة الحياة ، والعقل والفهم والمعرفة ، فلا شك أن هذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والذلة والمسكنة فثبت بمجموع هذه البيانات أن صلاة الصبح أفضل الصلوات فكان حمل الوسطى عليها أولى . 

مناقشة هذا الدليل : ـ

إن هذا يدل على فضل صلاة الصبح ، ولا يدل على أنها أفضل من غيرها ، ولئن دل على فضلها على غيرها فإنه لا يدل على أنها الصلاة الوسطى ؛ لأن ذلك يكون من مفهوم هذه الأدلة وقد ثبت كون الصلاة  الوسطى هي العصر بالتصريح ، والتصريح أولى من المفهوم .

التــرجيــــح: وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم يتبين لي أن الرأي المستحق للترجيح هو الرأي  القائل أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر وذلك لما يأتي :

1- قوة أدلتهم فهي أحاديث صحيحه صريحة في النص على أنها صلاة العصر .

2- أننا إذا نظرنا إلى أدلة كل فريق مما سبق نجد أنها لا تخرج عن كونها أحاديث تنوه إلى فضل هذه الصلوات والحث عليها وعلى أدائها ، وهو من جملة الترغيب في إقامة الصلوات ، ولا نجد التصريح إلا في أدلة من قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر .

3- إن أدلة من قال أن الصلاة الوسطى هي الصبح هي أدلة طيبة و لا يمكن تجاهلها ولكن إذا قورنت بأدلة أصحاب المذهب القائل إنها العصر ، نجد أن القائلين إنها الصبح قد ورد عنهم القول بأنها العصر ، وبهذا تكون تعارضت الراوية عنهم فنتطلع إلى ما يحسم هذا الخلاف ، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس.

4- ما روى  عن عبد الرحمن بن نافع أن أبا هريرة سئل عن الصلاة الوسطى ، فقال للذي سأله ألست تقرأ القرآن ؟! قال : بلى ، قال : فإني سأقرأ عليك بها القرآن حتى تفهمها ، قال تعالى : " أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ المغرب وقال:" وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء "  العتمة ، وقال : " وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا"  الغداة ثم قال : حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ " هي العصر ، هي العصر.

والحمد لله في البدء وفي الختام

والصلاة والسلام على خير الأنام محمد بن عبد الله

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

 

*عميد كلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز