عاجل
السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (12)

تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (12)

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

تذاكرنا سويا كيف خلق الله النفس واحدة متكاملة ، ثم شطرها لنصفين (ذكر - أنثى) ، ثم أعطى لكل نفس (شطر نفس) فرصة الحياة على الأرض بمنحها جسدا حيا (مادة + روح) ، وجعل من شطرهما (لذكر وأنثى) متوافقا مع حكمة الحياة على الأرض والتي هي ما بين الرغبة الفطرية في البقاء بالاستخلاف والحاجة الفطرية للتكامل ، فجعل تجدد الأجيال هو نتاج متعة ممارسة هذا التكامل لينتج عنه أجيالا جديدة تتوارث من بعضها ناموس الحياة على الأرض بإعمارها كخلفاء لله عليها وهي المهمة التي استحقوا عليها سجود الملائكة واستغفارهم ودعاءهم بل وتسخير بعضهم لحفظ نفوس البشر خلال حياتهم ، واسترجعنا ما ذكرنا به سبحانه في كتابه العزيز كيفية اعتياد النفس الدخول للجسد واحتلاله واستخدامها له ثم تكرار خروجها للنوم يوميا وتركها لهذا الجسد حيا (مادة + روح) ليعيد الجسد صيانة ما أتلفته النفس باستخدامها له ، ثم قدر الله المكتوب على كل نفس بأن يكون آخر ما تتذوقه النفس مع هذا الجسد هو ألم استرداد الله لسر الإحياء وهو الروح ، ثم يتوفى الله هذه النفوس لينشئها في نشأة أخرى مماثلة لما نعرفها ونراها دوما في مراحل الحمل المعجزة والرائعة لكل أنثى ولذلك يذكرنا الله بها بقوله تعالى .. { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } الواقعة{60 :62}



وهنا لابد وأن نعرف أن النفس البشرية كانت موجودة قبل احتلالها للجسد بعد اكتمال خلقه في رحم أم في نهاية الشهر الرابع للحمل ، كما أنها أيضا ستكون موجودة بعد انتهاء فترة حياتها في هذا الجسد على الأرض ، ولكن في شكل ونشأة مختلفة (أخرى) ، وشاء عدل الله تعالى أن لا تتذكر النفس شيئا من حياتها أو وجودها قبل الدخول للجسد ، ولا ترى حقيقة الأشياء إلا عندما ينتهي الأجل لقوله تعالى عن لحظة الوفاة .. {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }ق22 ، لأننا في حياتنا من خلال الجسد البشري لا نرى إلا في حدود قدرات هذا الطين وهي قليلة ومحدودة للغاية حتى أن قدرات الحواس لأجساد (أجهزة) الغالبية العظمى من مخلوقات الله على الأرض تتجاوز أضعاف قدرات جسد الإنسان ، وهذا في حد ذاته هو رحمة بالبشر ، فلو رأوا ما حولهم من مخلوقات أخرى لتشتتوا وفشلوا في ممارسة الحياة التي خلقهم من أجلها ، تماما مثلما تحجب عن ولدك الصغير المحدود القدرات كثيرا من الحقائق التي قد تلهيه عما تريده أن يتعلمه أو يعمله رأفة ورفقا به ومساعدة له حتى يشتد عوده وعقله ونفسه .

ولا شك أن تسلسل ومراحل نشأة النفس في الجسد البشري يعتريها الكثير من الظروف والتوافقات التي تؤثر بشدة في قدرة هذه النفس على ممارسة الحياة بواسطة هذا الجسد ، ومن أبرز هذه المؤثرات وأولها هو تأثير المنظومة الكلية للكون على الإنسان الذي هو جزء منها .. مثل .. تأثير المجالات المغناطيسية والكونية للأجرام السماوية حول الأرض على هذا الجسد الذي ينتمي بكل مكوناته للأرض خاصة اللحظات الحاسمة والحرجة مثل لحظة بداية تكونه والتي تبدأ من لحظة تخليق الحيوان المنوي ثم لحظة تلقيحه للبويضة ، ثم لحظة دخول النفس للجسد بعد اكتمال خلقه ثم لحظة ولادته والتي يعتبرها علماء الفلك هي أقرب اللحظات الفارقة التي يقيسون منها مدى تأثر هذا الجسد أولا ، ثم تأثره ككائن البشري مكتمل بوجود نفس تحتل جسدا حيا ، وبالتالي تأثره بحركة وتفاعلات الكون من حوله ، وهو لاشك علم واسع المجال ولكنه لا يحدد غيبا من المستقبل كما يدعي البعض ولكنه يرسم بوضوح الخطوط العريضة لسلوكيات هذا الجسد في التعامل مع الحياة ، ثم الخطوط العريضة لسلوكيات النفس في استخدامها لهذا الجسد وهو ما يستغل علاماته الدجالون ليصنعوا منها نبوءات بالمستقبل ليتكسبوا منها على حساب ضعاف النفوس والعقول من البشر وما أكثرهم .

ولا شك .. أن التنبوء بالمستقبل يستهوي النفوس البشرية منذ بدء الخليقة ، والله سبحانه يعلم هذا ويقدره {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }الملك14 ، ولذلك سمح الله للبشر أن يعلموا بعضا مما سوف يحدث لهم غدا طوال خمسة آلاف عام قبل اكتمال الميراث التاريخي والنفسي المتوارث للبشر ، ثم كان مولد خاتم الرسل إيذانا باكتماله وعدم حاجة البشر لمعرفة الغيب والمستقبل والذي كانوا يعرفون بعضه باستعانة بعض البشر (الكهنة) ببعض الجن ليسترقوا السمع على أبواب السماء ليعلموا ما سوف يحدث في المستقبل ثم يبلغونه للكهنة وهو ما ذكره سبحانه في سورة الجن على لسان الجن أنفسهم في اعتراف مسجل بقوله تعالى { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ، وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} (6 : 10 الروم) ، فكانت ليلة مولد خاتم المرسلين إيذانا ببلوغ البشرية سن الرشد وهو ما يعني إيقاف مساعدتهم بخبر السماء عما سوف يحدث في المستقبل على أيدي بعض الجن ، وهو ما سجله كهنة اليهود بقولهم في التلمود { تلك الليلة قطع عنا فيها خبر السماء وإنه لنذير شؤم على اليهود فقد ولد الليلة نبي آخر الزمان} .

وهو الموضوع بوجه خاص كبير ومتشعب ويتعلق بكثير من ثوابت الإيمان والحياة على الأرض ولكن يمكننا إيجازه سريعا بداية من قول الله تعالى في مطلع سورة النحل .. {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }النحل1 ، وهو إخبار من الله تعالى وبلاغ للناس بأن كل ما ينتظره البشر ويستعجلون حدوثه من أمر الله وعدله بين خلقه هو أمر قد صدر بالفعل ولكن له توقيت دقيق للوصول والحدوث على الأرض فهو ناموس (قوانين) أقدار الخلق ، والتي لا يغيرها الله برغبات البشر ، وتلك هي الآية التي فسرها الله تعالى في سورة السجدة بقوله سبحانه .. {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }السجدة5 ، وهو ما يعني أن كل ما يحدث على الأرض قد قدره الله وكتبه قدرا (مقضيا) قبل حدوثه على الأرض بخمسمائة سنة مما نعد على الأرض ، وأن الله شاء أن يتم تبليغه نزولا من اللوح المحفوظ تحمله ملائكة التبليغ حيا (صوتا وصورة) حتى يحدث على الأرض بعد خمسمائة سنة من صدور أمره وكتابته قدرا ، ثم يعاد عروج البلاغ العكسي بتمام حدوثه من الأرض تحمله ملائكة التبليغ إلى اللوح المحفوظ في خمسمائة سنة أخرى ليكون دورة الأمر كاملة هي ألف سنة مما نعد على الأرض ، وهو ما يعني أن كل حركة وسكنة وفعل يحدث من البشر قد كتب عليهم من قبل حدوثه ، وهو ما يستوجب سؤالا واحدا ولا حرج فيه ، وهو لماذا يحاسبنا الله على ما كتبه سبحانه علينا ؟؟؟ ، وهو سؤال يحمل الجهل بقوانين الحياة التي أقرها الله لنا وعلمنا إياها ولكننا نهوى الضلال والتغافل ، فالله أقرها بقوله تعالى .. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }المدثر38 ، فالله يحاسبنا على كسب النفوس وليس كسب الحواس كالأيدي والألسنة ، وكسب النفوس ليس سوى النوايا ، وهو ما فسره رسول الله بقوله .. { إنما الأعمال بالنيات .. ، ولكل أمريء ما نوى } ، فنحن محاسبون على النوايا التي لا يعلمها إلا الله ويحاسب عليها وهو قوله تعالى .. {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة284 ، وذلك قمة العدل والرحمة من الله ، فليس من المعقول أن يكون لكل إنسان قدرة على فعل نواياه ، وإلا لفسدت الأرض ولكن من رحمة الله أن يجري سبحانه الخير على من اعتاد نوايا الخير في نفسه ، والعكس صحيح مع إمكانية حدوث العكس كاستثناء مرة ومرات لإثبات وتذكير البشر بأن الأمر بيد الله ، وبالتالي فما يحدث من فساد على الأرض ليس إلا بعضا يسيرا من نوايا البشر السيئة والفاجرة وهو ما يذكرنا به سبحانه بقوله .. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41 .

ولذلك ينهانا سبحانه أن نقول أننا سنفعل شيئا دون تقديم مشيئته بقوله تعالى .. {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ، إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً }23 ، 24 الكهف ، بل نجد أن الله تعالى ذكر مشيئته في القرآن أكثر من مائة مرة ليعلم البشر أن مشيئته سبحانه هي النافذة والمنفذة ، وما مشيئات البشر إلا نوايا لا تملك التنفيذ إلا بإذن الله ومشيئته سبحانه ، ولذلك فحسابهم على نواياهم فقط ، ويزيدهم الله من فضله فيجازيهم على حدوث نواياهم بحسنات مضاعفة هم لا يستحقونها بالعدل ولكن ينالونها من واسع رحمته بخلقه وعبيده ، ثم يوجز رب العزة موضوع المشيئة والقدر في قول بليغ في سورة الحديد ، ينهانا فيه أن نفرط في الحزن أو الفرح  لأحداث الدنيا بقوله تعالى .. { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} 23 ، 24 الحديد وتلك هي أسس ناموس الله في خلقه للنفوس والتي سوف نستكمل مواصفاتها وقدرها .. لاحقا ..

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز