عاجل
السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (13)

تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (13)

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

انتهينا سابقا عند قدر الله وقضاءه في عباده وتذاكرنا سويا ما نغفل عنه دوما ، وهو أن كل حركة وسكنة تحدث في الدنيا هي مقدرة ومكتوبة ولا حيلة لبشر أن يتدخل فيها ، فنحن لا نملك إلا النوايا وهي التي يحاسبنا الله عليها ، {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }البقرة284 ، وما نحن بمحاسبون على الأعمال والأفعال التي تحدث ، فلا يملك بشرا أن يغير شيئا مما كتبه الله عليه أن يقوله أو يفعله ، ولكنها رحمة الله أن يجري الخير على يدي صاحب النوايا الحسنة والعكس صحيح ، وهذا لا يمنع أن يحدث العكس كاستثناء حتى لا ينسى ابن آدم أن الله هو صاحب الأمر والمشيئة ، وما نراه على الأرض من فساد قد ذكره الله تعالى بقوله سبحانه .. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41 ، ولو منح الله البشر القدرة على تنفيذ جميع نواياهم لفسدت السماوات والأرض وهو أيضا قول الله عز وجل {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ }المؤمنون71 ، فما يأتينا وما يحدث هو تاريخ كتب علينا وذكر يتم سرده لحظة حدوثه ولا نملك له تغييرا ولا تبديلا ، ولكننا نملك أن يجعله الله علينا خيرا بحسن نوايانا في طاعته وبالرضا بقضائه عند وقوعه .



وعجبا للإنسان .. وهو يجادل كثيرا ويحاول إثبات قدرته على القول والفعل وهو في الحقيقة لم يكن له مشيئة أو حتى علما بيوم مولده ولا بيوم موته ولا في الاختيار أو العلم بأي شيء بينهما ، كوالديه أو دينه الذي ولد عليه أو بيئته ، ولو سردنا العلامات البارزة في حياة أيا منا ، لتأكدنا أننا لا نملك منها شيئا ولا حيلة لنا فيها إلا بالتحكم في نوايانا التي نضمرها ونحن محاسبون عليها من ربنا الذي خلقنا ، ولا يعلم نوايانا سواه ، فسبحانه من أنشأنا وقدر أرزاقنا وأعمارنا وقدورنا وأقدارنا ويتوفانا في كل يوم ثم يبعثنا مرات ومرات حتى ينتهي الأجل فيتوفانا لينشأنا في نشأة أخرى ، وبيده سبحانه مستقرنا ومستودعنا ، وذلك هي البلاغ الإلهي لابن آدم في قوله تعالى ... {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }الأنعام98 ، ولا يزال الإنسان مصرا على تصديق قدرته على تخيل حدود وناموس خلق الله لكونه والمخلوقات فيه ، رغم أنه محصور في حدود ما يعلمه ، وهو لا يعلم في النهاية شيئا ، وهو ما يقرره رب العزة في سورة الحج بآية بليغة يستعرض في بدايتها خلق الإنسان بقوله تعالى .. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }الحج5 ، وكثيرا ما يلومنا سبحانه على غرورنا بما عندنا من العلم بقوله تعالى .. {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }غافر83 ، ثم يزيدنا الله تأكيدنا لحجم جهلنا بقوله تعالى .. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85 ، رغم علمنا أن عقولنا محدودة للغاية ولذلك فهي عاجزة تماما عن إدراك وفهم ناموس خلق الله لكونه إلا ما يعلمنا الله إياه ، وهذا هو قدر الله في خلقه للإنسان .

وفي معرض وصف الله لخلقه للبشر نجد أن عدد الآيات الفعلية قد تعدت أكثر من سبعمائة وسبعين آية نقسمها لأقسام رئيسية نبدأها بآيات خلق الله للنفوس من نفس واحدة متكاملة وعددها ثمانية آيات في ثمانية سور من القرآن هي {النساء والأنعام والأعراف والنحل والروم ولقمان والزمر والشورى} على الترتيب ، ففي سورة النساء يؤكد سبحانه وتعالى أن أصل نفوس الذكر والأنثى واحد فالنوازع والرغبات والشهوات واحدة ويحكمها دوما الرغبة الفطرية في التكامل { وهو سر التجاذب الفطري بين الذكر والأنثى} والذي ينتج عن ممارسته جسديا ونفسيا مزيدا من البشر وهو قوله تعالى .. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1 ، وفي سورة الأنعام يقرر سبحانه أن النفس والتي (مستودع) جزء منها في جسد ذكر ، والآخر (مستودع) في جسد أنثى سوف تعود لمستقرها كوحدة واحدة متكاملة في مستقرها الأخير ثم يؤكد أنه هذا التفصيل لن يدركه إلا من يفهم ويفقه ويتدبر بقوله تعالى ..{وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ }الأنعام98 ، وفي الأعراف يؤكد على أن أصل وحدة النفوس هو المرجع الذي تتصرف النفوس على أساسه وأن ممارسة التكامل النفسي والجسدي بين الذكر والأنثى هو حالة السكون والاستقرار التي تسعى لها النفوس فيكون من نتاجها حمل الأنثى وهو ما ينتج عنه تجدد الأمل للذكر والأنثى وسعادتهما بالاستخلاف ورجائهما وأمنياتهما بالخير للقادم من بينهما وهو قوله تعالى .. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }الأعراف189 ، أما في سورة النحل فيقرر سبحانه أنه جعل لنا أزواجا من نفوسنا وجعل لنا منهم ذريات متتالية وهو قوله تعالى .. {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ }النحل72 ، ثم يوضح سبحانه حكمته وآياته في الخلق في سورة الروم بقوله تعالى .. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الروم21 ، وهو ما كرره سبحانه للتأكيد ولتوضيح رحمة الله وعنايته بمراحل خلق الجسد أطوارا وخلقا من بعد خلق في الأرحام في حماية ثلاثية هي جدار البطن ثم الرحم ثم كيس الجنين (ظلمات ثلاث) وهو قوله تعالى .. {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }الزمر6 ، ثم يستكمل سبحانه حديثه عن وحدة النفس بقوله تعالى .. {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11 ، ويوضح سبحانه معجزته في خلق كل شيء على الأرض من زوجين لتكون أطراف الشراكة في الحياة على الأرض متماثلة مع خلق البشر ليحقق لهم قمة الإعجاز في توافق حركة حياة المخلوقات المتنوعة في بيئة الأرض المستخلفين عليها لله وبأمره وقدره ، فلا ترى على الأرض توالد أجيال إلا من خلال التزاوج بين ذكر وأنثى حتى في النبات لتظل حكمة الحياة على الأرض كامنة فيما بين { تباين الضعف .. والاحتياج للتكامل } .

ثم يختتم الله حديثه عن خلق النفس في معرض وصفه سبحانه لمشاهد وأحوال يوم القيامة وانتهاء الحياة في الكون ، وذلك في (14) أربعة عشرة مشهدا متتاليا في سورة التكوير بقوله تعالى .. {ِإذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } ، ويأتي ذكر النفوس في المشهد السابع من الصورة المتكاملة ليوم القيامة في قوله تعالى .. {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }التكوير7 ، وهو إبلاغ من الله للبشر أن بعثه يوم القيامة للنفوس لن يكون إلا بتزويجها لبعضها البعض لتعود وحدة متكاملة كما بدأت ، ولذلك لا عجب لو قرأنا عن أحوال يوم القيامة قوله تعالى .. {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ }المؤمنون101 ، وحقا .. كيف تكون هناك ساعتها (أنساب) ..  أباء أو أمهات أو أعمام أو خالات وقد اختفى طرفي الأنساب وهما الذكر والأنثى ، فهما فقط من ضرورات وحكمة الحياة على الأرض ، والتي بانتهائها ينتفي سبب قسمة النفس لذكر وأنثى فيبعث الله البشر يوم القيامة كنفوس متكاملة لا ذكر فيها ولا أنثى ، وهو ما يقرره سبحانه بمنتهى الوضوح في سورة لقمان بقوله تعالى .. {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }لقمان28 ، وهو ما أوضحه سبحانه (8) ثمانية مرات في سور {الأعراف ويونس والأنبياء والنمل والروم والسجدة} في كتابه العزيز وموجزها في قوله تعالى .. {.. كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }الأعراف29 ، وقوله تعالى .. {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }الروم11 ، فالله كما بدأ الخلق يعيده لحالته الأولى كما بدأها سبحانه ، ولكن يسبق هذا المشهد الأخير مراحل حياة متتالية ومتباينة .. وهو ما سوف نستعرضه لاحقا ...

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز