عاجل
السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (16)

تسقط الأمم .. بتزوير المفاهيم (16)

بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر

توقفنا سابقا عند مفاهيم خطيرة تم تزويرها وهدمها فتسببت في وجود عاهات نفسية متأصلة في نفوس شبابنا وهي سبب رئيسي في إعاقة جهود التطور والتقدم الأسري والمجتمعي ، وهي جريمة الوالدين في حق أبنائهم بتوفير كل متطلباتهم والرفق بهم بعدم تكليفهم بواجبات ملزمة منذ نعومة أظافرهم ، وهو ما نتج عنه أجيال من الشباب ضعيف النفس والجسد بل ونرجسي الطباع ، ولا ذنب لهم فقد تعودوا أن يأخذوا دون أن يدركوا معنى العطاء أولا كثمن مستحق للأخذ ، والأخطر هو أنه رغم علمنا أن الأبناء يتعلمون بالمشاهدة والمراقبة لنا وليس بالتوجيهات ولكننا كوالدين نرتكب جرائم خطيرة تحفر كقيم مقدسة في نفوس أبنائنا كالتباهي بالواسطة والحرص عليها والرشوة ثم الكذب والخداع والأنانية والسير في الممنوع والتفنن في مخالفة القوانين والهروب من المسئولية في أعمالنا وواجباتنا ، ثم نظن أن أبناءنا سيكونون مجتهدين ولن يقلدونا فيما نفعله في القريب العاجل وباحتراف أكثر مما نتخيل ، ونشكو أن أبناءنا كسالى وفشلة وتافهين وبعضهم مدمنين ومحترفين للفوضى والعشوائية والانتقاد والاعتراض ولا يعتمد عليهم ، ولا تقف جرائمنا في حق أبنائنا عند كارثة حنان الدبة التي تقتل صاحبها بالتدليل ولا عند هدمنا لكل القيم والمباديء السليمة بعاداتنا المشوهة ، ولكن يضاف لهذا كارثة إنسانية نفعلها دون أدنى خوف من الله أو قلق على مستقبل نفوسهم وأخلاقياتهم { .. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ .. }النور15 ألا وهو إلقاء الأم لطفلها وهو تحت سن المدرسة بل ومنذ الشهور الأولى في حضانة من الصباح ولساعات طويلة قد تصل لعشرة ساعات يوميا ، وهي تظن أن مجرد توفيرها من يطعمه ويراعي نظافته قد أعطته ما يحتاجه وتتجاهل أنها تدمر وبقسوة في نفسه الواعية أكبر وأهم مباديء الإنسانية والمروءة ، فهذا الطفل ما زال لديه تسجيل فطري لدقات قلب أمه وتأنس لها نفسه وقد اعتاد أن ينام مستمتعا بها ، فإذا به يحرم منها عنوة ولساعات طويلة يوميا ، فلا عجب لو علمنا يوما أن هذا الطفل هو من سوف يترك أمه أو زوجته أو ابنته مريضة ليستمتع بمباراة كرة أو يلعبها ولو (بلاي استيشن) ، وهو أيضا من سوف يصر على إيداع أمه أو أبيه في دار المسنين يوما ما ليرتاح من عناء العناية بهما ، وهو نفسه من سيفجر نفسه ليقتل أبرياء فقيمة الحياة وواجباتها تجاه الآخرين قد تم نسفها في نفسه طفلا ، وهو ليس بمجرم ولا عاق ولكنه ببساطة يرد العقوق النفسي السابق والمحفور في نفسه للدنيا كلها .



وهنا يجب أن يتوقف الوالدين كثيرا عند طبيعة النفس البشرية التي جاءت للدنيا مؤخرا في جسد طفل رضيع ، فهذه النفس هي في الحقيقة مكتملة القدرات وتعي جيدا ما يدور حولها ولكنها مجردة من رتوش الحياة التي صنعناها لعالمنا من تقاليد وأعراف وقيود وبروتوكولات ، ولا يوجد لديه سوى مشكلة واحدة متناقصة يوما بعد يوم وهي أن الجسد الذي يسكنه ويستخدمه بما فيه قدرات غرفة التحكم (المخ) ، ما زال في طور النمو وهو كنفس ما زال يتعلم إجادة استخدام هذا الجسد سواء في التعبير عن نفسه ومتطلباته أو الاعتماد على نفسه في تلبية رغباته بواسطة هذا الجسد ، أو استخدام هذا الجسد ليكون شخصا نافعا مساهما في الحياة مثل من سبقوه ، ولذلك يجب أن ينتبه الوالدين جيدا في التعامل مع أطفالهم ولا يسقطون في هاوية أخطاء التعامل معهم على أنهم لا يفهمون فليلبون لهم كل طلباتهم البسيطة التي يجب أن يتعلموا الاجتهاد لنيلها ، أو خداعهم والكذب عليهم أو حتى محاولة محاكاة أساليبهم في الكلام أو التعامل ، فالنفس الجديدة تعرف جيدا أن قدرات جسدها أقل ممن حولها ، ولكنها مدركة تماما لما يجب أن تتعلمه وتجيده تدريجيا تبعا لنمو جسده وقدرات أجهزته ، فإذا صادف والدين يستمتعان بتدليله ومعاملته على أنه غير مدرك ويجب مساعدته في كل شيء ولا يكلفانه شيئا ، فسوف يستمريء الراحة والكسل ويستمتع بفشله في استخدام قدراته فيشب ضعيف النفس والجسد وعاشقا للدعة والنعومة والرفاهية والمتعة والأخطر أنه سيصبح صاحب نفس ضيقة ضعيفة تتمتع بأنانية متزايدة بل وقد تتجاوزها في زخم فرح الوالدين المستمر بهذا المخلوق المستمريء للتدليل لتصبح نرجسية متأصلة ، بعكس الطفل الذي يولد في بيئة واعية وجادة أوعاملة تدفع الصغير دوما أن يبذل الجهد في محاولة للحاق بمن حوله  وإثبات وجوده بمشاركته وجهده ، فيشب قوي النفس والجسد ومدرك لمعنى العطاء من أجل الأخذ والاستمتاع بما ينجح في استحقاقه ، وهو ما يصنع أجيالا جادة وقوية يعتمد عليها ، تصنع حياة كريمة لنفسها وأهلها في إطار صناعة مستقبل أمة .

ولا ننسى أن النفس البشرية ومنذ ولادتها تدرك أن قدرات جسدها أقل بكثير من قدراتها ورغباتها كنفس ، وبمرور سنوات عمره تتزايد قدرات الجسد تدريجيا ولكنها لا تصل مطلقا لقدرات تتناسب مع طموح النفس ورغباتها ، ولذلك تتزايد الأخطار المحدقة بالصغير كلما تزايدت قدرات جسده دون توجيه ومراقبة والتي تصبح في قمة خطورتها وعدم اتزانها في سنوات الصبا أوما نسميها بالمراهقة ، والتي عندها يكتشف الصغير أنه قد أصبح قادرا على التفاعل الجنسي ، وهي مرحلة شديدة الخطورة والتعقيد ، ولكن حلولها في منتهى البساطة واليسر إذا استعد لها الوالدين مبكرا بزيادة تكليفاتهم بالواجبات تدريجيا للصغير منذ سنته الأولى ، حتى يصل لمرحلة المراهقة ولديه واجبات متأصلة في نفسه وقد رأى والديه يفعلونها بلا شكوى أو تذمر أو مشكلات خاصة بينهما ، فالصغير هو إضافة جديدة للأسرة ولابد أن تزيد حجم مشاركته لأعباء ومسئوليات الحياة يوما بعد يوم ، بداية من نظافة وترتيب مكان نومه وغرفته منذ عامه الأول ، حتى لا نرى ما تتباهى به الأمهات من فوضى وقذارة غرف ابنائها أو بناتها الشباب وكأنها تتباهى بعبقريتها في فشل تربيتها لهم ، ولا يقف الحد عند هذا بل يجب أن يتعلم جميع الأبناء القيام بكل الواجبات المنزلية بالتعاون والتبادل يوميا وبمراقبة من الأم دون عنترية الجهل والتخلف للولد دون البنت ، ودون استثناء خلال أيام الدراسة أو الامتحانات ، لأن ما ينساه الوالدين أن إنشغال الصغير بواجبات بجانب الدراسة دوما سوف تصنع عقلا أكثر تكيفا  وذكاءا وقدرة على تحمل المسئولية ، فضلا عن واجبات يومية بإحضار ما يحتاجه المنزل والمشاركة في وضع ميزانية دورية للمنزل بكل ما فيها من تبادليات ومفاضلة بين الخيارات ، حتى لا يتحول مستقبل الطفل لصراع دائم بين والدين فاشلين وأنانية أبناء ضائعين ومعاندين وفشلة ، وهي النتيجة المنطقية لوالدين يفعلون لهم كل شيء ويدبرون كل متطلباتهم دون عناء منهم ، ولذلك يجب أن يكلف الولد بالعمل خارج البيت اعتبارا من سن البلوغ ، بل يجب أن يتعامل مع فئات ومستويات أخرى في المجتمع دون الخوف من أوهام انهيار تربيته أو تقليده للسيء من العادات ليتعلم كيف يتعامل مع الغير دون رهبة أو ضعف ، والأهم أن يعرف قيمة العمل والأجر ويدرك مبكرا أنه يحيا في نعمة قد حرم منها كثيرون من أقرانه ، بل ويجب أن يكلف بالإدخار من عائد عمله لحساب مصروفه خلال الدراسة أو يساهم في تكلفة ملابسه أو أدوات المدرسة أو الترفيه التي يريدها ، بل ويحاسب على عودته لبيته متأخرا أو بدون شراءه لشيئ يحتاجه البيت معه كنوع من الإحساس المسئولية تجاه عائلته ، فالأجازة ليست فرصة لراحة الصغير من مسلسل الكسل والراحة التي استمتع بها بحجة الدراسة ، ولكنها فرصة لتعليم الصغير والصغيرة حقيقة تكليفات الحياة والمشاركة فيها بكل قوة وجدية .

تلك الأساليب التي تربى عليها أجيال سابقة وأثبتت نجاحها وصناعتها للرجال والنساء الأقوياء والقادرين على تحمل المسئولية ، وليس أجيال تسجل حالة طلاق كل (6) ستة دقائق ، ولعلنا نعلم أنه في الغرب ، عندما يبلغ الولد أو البنت سن السادسة عشرة ، يتم الاحتفال بهم وهو يعلم أن والديه ليسا ملزمان بالإنفاق عليه بعد هذا اليوم ، فهو قد أصبح قادرا على الكسب وتدبير شئون حياته ، وهو ليس جديدا على البشرية فنبي الله إسماعيل يقول عنه رب العزة (فلما بلغ معه السعي) أي بلغ عامه الثاني عشر وقيل خمسة عشر ، فسن التكليف الجاد بالسعي (بالعمل والكد والكدح) لا يتعدى السادسة عشرة ولكنه يبدأ بالتدريج من عمر سنة واحدة ، وهو ما يصنع أجيالا قادرة على تحمل المسئولية والتي من المؤكد سوف تكون أفضل كثيرا من أجيال عاطلة تتسول مصروفاتها من والديها ، وتقضي أوقاتها في التسلية مثلما هومنتشر بين شباب المتزوجين باستمرار خروجه المنتظم مع أصدقائه ولا يتنازل عنهم رغم أن شبابنا يعرفون أن الغرب الذي يقلدونه يقيمون حفلا لتوديع المتزوجين للعزوبية ينتهي عندها علاقتهما المستديمة بأصدقاء العزوبية ويبدأ من يومها التفرغ الكامل لمسئولية ومهمة صناعة مستقبل عائلة وأبناء والاعتناء بهم والتي هي أولى بوقته كاملا واهتمامه ، ولكننا دوما في بلاد المسلمين نتنكر لموروثات الدين والحضارة التي نتناساها ، ثم لا نقلد دوما إلا الأسوأ والمدمر وهو لا شك قد تعلمناه من والدينا في سوء تربيتهم لنا بسبب جهلهم المبتدع بأسس التربية السليمة والتي وردت كعبر في القصص القرآني وأكدها سبحانه وتعالى في أكثر من ثلاثمائة آية في خلق النفس البشرية ولكننا لا نقرأ وإذا قرأنا لا نعي ما نقرأ وهو ما توارثنا عواره عبر قرون طويلة ولابد أن نتخلص منها ونتعلم كيف نقرأ القرآن ونربط بين آياته ونتعلم منها ما أرادنا سبحانه أن نتعلمها ونعمل بها ونعلمها أبنائنا ,, وهو ما سوف نتابعه سويا لاحقا ...

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز