عزيزي..هل أنت مخترق فكريا..(5)
بقلم : لواء أركان حرب/ جمال عمر
لا شك أن أركان النفس البشرية الثلاثة (المفاهيم – الأمانة الذاتية – الذكاء النفسي) هي دعائم ثبات واستقرار النفس والدرع الواقي لأية اختراقات فكرية عبر عمر الإنسان ، ولكن أخطرها على الإطلاق هي المفاهيم والتي باستقامتها تستقيم حياة الإنسان ولا يستقيم نتاج المفاهيم كسلوكيات شخصية دون مفهوم سليم وقوي لمعاني الأخلاق ولا ترقى أخلاق الإنسان دون وجود الخلق الرباني وهو الحياء ، وهو ما توقفنا عنده سابقا ولن نخوض في تفاصيل بقية مفردات الأخلاق فالحديث عندها طويل ومتشعب ولكننا سننتقل للركن الثاني والهام وهو (الأمانة الذاتية) والتي هي صمام الأمان البشري .
وعند ذكر (الأمانة) لابد وأن نتوقف عند مفهوم الأمانة المطلق الذي حدثنا عنه رب العزة في قرآنه العظيم ، بقوله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }الأحزاب72 ، ومعنى الأمانة هنا اختلف فيها الكثيرون من المفسرين والسلف وربما غاب عنهم معناها التي فسرها سبحانه وتعالى في آيات أخرى في حديثه عن ندائه للسماوات والأرض اللاتي اخترن تنفيذ المهمة التي خلقهم الله من أجلها طائعين (لا خيرة لهم) بقوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت11 ، أي أنهم اختاروا ألا يكون لهم القدرة على الاختيار بين أن يفعلوا أو لا يفعلوا ما خلقوا من أجله ، والتي تعني ببساطة أن الأمانة التي حملها الإنسان بجهله وظلمه لنفسه ما هي ألا (مسئولية الاختيار) في نواياه ، وبالتالي فكل كلمة أو فعل ينتويه الإنسان في نفسه هو مسئولية مؤتمن عليها من رب العزة خالقه في إطار تنفيذه للمهمة التي خلقه الله من أجلها وهي .. إعمار الأرض كخليفة لله عليها ، وبالتالي فلا تصان الأمانة إلا بشرط رئيسي وحيد وهو أن تكون النية خالصة لوجه الله ولرضاه في ظل مفهوم سليم لمعاني الإعمار للأرض ولصالح خلق الله عليها .
وبالتالي فالأمانة الذاتية لا يحميها ويصون استقامتها إلا وازع ومكون أساسي في نفسه وهو ما نسميه بـ (الضمير) والذي هو جهاز التقييم والمحاسبة ووظيفته تقويم الأقوال والأفعال ومقارنتها بالمستهدف من أخلاقه طبقا لمفاهيمه الخاصة ، ولذلك نرى أن أول صفة لرسول الله كانت هي (الأمانة) ، ووصفه أهله منذ صغره بالصادق الأمين مع ملحوظة أن الصدق هو أمانة الكلمة فمجمل أوصافه هي (الأمانة) ، والأمانة صفة ربانية يهبها الله لكل عباده بفطرة مولدهم ، فتراها في عيني طفلك وهو يستحي منك عندما يخطئ ويتوارى منك لخطئه فأمانته تفرض عليه الحياء منك حتى لا تراه على خطأه ، لنعود مرة أخرى للحياء الذي يحمى الأمانة كأحد الأركان النفسية تماما كما يدعم كافة الصفات الأخلاقية الأخرى .
وخلال نشأة ابن آدم تترسخ في نفسه ما تعود عليه في بيئته سواء من الاستجابة لفطرة الأمانة في نفسه فتتضح وترتقي معاني مسئولية الأمانة وتوابعها في نفسه ، أو على النقيض تماما باعتياد تعمد وكسر قيود وحدود الأمانة و مخالفتها فجورا وتعنتا على اعتبار أنها مهارة في التحايل على قيود الحياة في الدنيا ، وهي في الحقيقة كسر للحدود وإهدار للمسئولية والهروب منها فتعد خيانة للأمانة وهو ما يحذرنا الله منها بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }الأنفال27، ودوما عندما يريد ابن آدم أن يخون أمانته يراوغ ويخدع نفسه ويكذب عليها أو يتغافل عن الحقيقة فيغمض عين ضميره فيقول رب العزة عن هذا {... وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }البقرة267، بل ويصل حد الكذب بابن آدم على نفسه (مثلا) حتى يسمي خيانة الأمانة لصيانة وحفظ جسده من الإهدار ونهم العيون بـ (الفن والإبداع) فترى كثير من النساء تتباهى بجمال جسدها وتعرضه بفخر وتباهي لكل العيون في ملابس تصف مفاتنها بدقة (دون حياء من الله أو من خلقه .. وهم عيونه وشهداءه في الدنيا عليها) ويسمون هذا النوع من خيانة الأمانة بالتقدم والتطور والموضة والشياكة والزينة ، ثم يزيد فجور النفس فتحطم وتدمر معنى الأمانة فترى بشرا يصنع من فواحش عرض المفاتن وسيلة لإشاعة الإثارة الشهوانية ، ويسمونه بالفن والإبداع بالرقص ، لنصل لقمة إهدار الإنسان للأمانة في نفسه بعرضه كسلعة ووسيلة لاستثارة شهوات الغير وتزوير مسمياتها (دون حياء) .
وحقيقة لا يوجد معصوم من التورط في خيانة الأمانة مرة ومرات (إلا ما رحم ربي) بل من العجيب أن شياطين الإنس والجن يوحون إلى بعضهم البعض زخرف القول والفعل غرورا ، حتى نرى تجار الدين وهم يدعون أنهم أهل الدين لكنهم يهدرون حياة غيرهم باسم الدين وهم أولى الناس بصيانة أمانة الحفاظ على حياة البشر التي هي بنيان الرب وملعون من هدمها ، ويفسدون في الأرض ويخونون أمانة مهمة الإعمار التي الأصل والغرض من خلقهم ويدعون أن أفعالهم جهاد وفي سبيل الله ، والأخطر أنهم يتورطون في الكذب على الله وخيانة أمانة الكلمة لغيرهم وهم يعلمون من أجل مكاسب دنيوية لن ينالوا منها إلا ما كتبه الله لهم كرزق مقسوم في الدنيا لو كانوا يؤمنون بحق أو لديهم استقامة في مفاهيمهم الأساسية ، وهو ما يعيدنا إلى المفاهيم والتي لو استقامت في نفس الإنسان ما تجرأ أن يرتكب جريمة خيانة أمانات الله المؤتمن عليها ، والتي يذكرها الله في تحذيره شديد اللهجة في سورة الأنفال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، والأمانات هنا هي كل فعل وقول يمتلك ابن آدم قدرة اختيار نواياه فيه .
ولعلنا كررنا هنا أن الأمانة هي (اختيار النية) ولم نقل (اختيار الحدث) ، وهو ما يعيدنا لصحة واستقامة المفاهيم فابن آدم لا يملك سوى النية في حين كل ما يحدث على الدنيا من قول وفعل هو قدر مكتوب بدقة لا يملك ابن آدم تغييره ولا صناعته ولذلك يحاسبنا رب العزة على نوايانا والتي هي في النهاية فعل نفوسنا ، فيقول رب العزة {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }البقرة281 ، ومؤكدا سبحانه هذا بقوله {لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }إبراهيم51 ، ثم بقوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }المدثر38 ثم يفسرها رسول الله صريحة واضحة بقوله (إنما الأعمال .. بالنيات .. ولكل امرئ ما نوى) ، وفي هذا لابد وأننا جميعا لاحظنا أن الإنسان في حياته أنه قد ينتوي فعل أشياء يريدها بشدة ولكن الله لا يمكنه منها ويمنعه عنها رغم أنفه خاصة لو كانت خطيئة فيمنعه الله ويكسر له نيته مرة ومرات ولا تحدث إلا إذا كانت مكتوبة عليه وقد أصر عليها بنيته ، ولذلك يقول رب العزة {..... وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة216 ، لتصبح الأمانة كاملة هي اختيار النوايا والتي لا يعلمها إلا الله وصاحبها ولذلك فكل نفس بنواياها ولله في خلقه شئون .
فلا شك أن الأمانة كصفة ربانية منحت للإنسان هي مسئولية تاريخية تحملناها منذ بدء الخليقة ظلما وجهلا ، وتذكرها نفوسنا كفطرة مستقرة وأصيلة ، تزداد أو تنقص متأثرة بالتنشئة والتربية وما يعتاده ابن آدم من المحيطين به والمسئولين عنه ولكنه في النهاية يتحمل مسئوليتها وحده مهما كانت نشأته فلا تنقص شراكة غيره في جرم الخيانة للأمانات من مسئوليته خاصة وأن كل منا يعرف نفسه قدور جرمه أو خطأه مهما كانت أعذاره وهو ما يذكرنا الله به في قوله تعالى {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ }القيامة14 ، 15 ، فلا حجة لابن آدم بين يدي ربه لأن الله يلهم عباده ويرشدهم بآياته وعبره وبأيدي غيرهم من خلقه لعلهم ( يتفكرون - يرشدون - يهتدون - يتقون – يتذكرون – يذكرون - يرجعون – يفقهون – ينتهون – يحذرون – يعلمون - يشكرون) ، ولا تسقط الأمانة الذاتية إلا بسقوط العقل والذي هو فعل النفس بوعيها وقدرتها على التمييز بين الخير والشر والموازنة بين المفاهيم دون شطط أو مغالاة ، ولا يسقط العقل إلا بسقوط قدرته على ما نسميه برد الفعل العكسي أو (الضمير) الذي يحاسب صاحبه وهو فعل نفسي إرادي وفطري يولد به ابن آدم وتتنامى وتتنوع قدراته عبر عمر الإنسان ويختلف من شخص لآخر تبعا لقدراته الذهنية وهو ما نطلق عليه (الذكاء النفسي) وهو ما سوف نتناوله لاحقا ..
















