

محمد نجم
التعليم..لابس مزيكا !
بقلم : محمد نجم
بعض فرق الموسيقى الشعبية -خاصة فرقة حسب الله- كثيرًا ما كان ينقصها العدد المطلوب من العازفين المتمرسين.. فكانت تلجأ إلى المساعدين من حملة الآلات.. وتطلب منهم أن يرتدوا «البدلة الكاكى» والتى كان يرتديها بقية أغضاء الفرقة، ثم تعطى كلًا منهم آلة موسيقية مختلفة.. وتشترط عليهم عدم العزف وإنما تقليد العازفين فى حركاتهم مع الحرص على عدم إخراج أصوات من آلاتهم..، وذلك حتى تبدو الفرقة مكتملة العدد.. ومن ثم يمكنها التفاوض على الأجر المناسب مع مشاركة هؤلاء المساعدين فى البقشيش ووجبة العشاء التى يحصل عليها أعضاء الفرقة.
وبمرور الأيام اكتشف المستمعون والمشاهدون هذه الحيلة.. وأطلقوا على هؤلاء (المساعدين) التعبير الشعبى الشهير «لابس مزيكا»، وهو يعنى أن الشخص يرتدى ذات بدلة العازف ويحمل ذات الآلة الموسيقية ولكن لا ينتج شيئًا معبرًا، وإن أنتج.. فعزفه نشاذ وقد يضر بالفرقة.. ويمنع الجمهور من الاستعانة بها فيما بعد.
وهكذا حال التعليم فى مصر.. وزارة ومديريات التعليم فى المحافظات.. ثم مدارس.. ومعلمين.. وطلاب.. وكتب.. وكراسات.. إلخ، أى الشكل العام.. الذى يوحى باكتمال العملية التعليمية على أفضل وجه.. متوفر وموجود.. والبينة على من يدعى بغير ذلك.
ولكن ماذا يجرى على أرض الواقع؟ وما هى المخرجات؟ فى الحقيقة باستثناء المرحلة الابتدائية.. يمكن القول إن مدارس الحكومة لا يوجد بها تعليم جدى، ففى المرحلة الابتدائية.. الأطفال صغار السن.. كثيرًا ما يتعلقون بمعلمهم أو معلمتهم التى تستكمل دور الأم فى المدرسة، ومن ثم يحرصون على سماعها ومتابعتها وتلقى الدروس منها، ومن ناحية أخرى.. هم لم يتعودوا بعد على الزوغان من المدرسة.. وأغلبهم ليسوا فى حاجة إلى دروس خصوصية فى هذه السن الصغيرة والمراحل الأولى من التعليم وحتى السنة الرابعة على الأقل، هذا بالطبع على أساس أن معلمى المرحلة الابتدائية يراعون ضمائرهم ويهتمون بطلابهم الصغار.. وهو غالبًا ما يحدث من باب العاطفة الأبوية على الأقل.
ولكن عندما ينتقل التلميذ إلى المرحلة الإعدادية تبدأ الأمور فى التغير.. فالفصول مكدسة بأعداد زائدة عن طاقتها وقد لا يستطيع المدرس السيطرة على الفصل.. وأحيانًا ما يعوقه ذلك عن الشرح، فيلجأ الطالب إلى الدروس الخصوصية، سواء فى «سناتر» مجمعة أو لدى مدرس الفصل ذاته، والخطير فى الموضوع أن الدروس الخصوصية تعطى حاليًا فى أوقات الدراسة.. أى أن الطالب والمدرس يزوغان من المدرسة ويلتقيان فى منزل المدرس أو فى مكان آخر لتلقى الدرس!. وللأسف الشديد يتم ذلك بعلم إدارة المدرسة من مدير وناظر ووكيل.. إلى آخره!
ولا يختلف الأمر كثيرًا فى المرحلة الثانوية.. بل يزداد فوضى.. فالتلاميذ الصغار أصبحوا شبابًا فى مرحلة المراهقة ولديهم رغبة فى إثبات رجولتهم المبكرة.. وهو ما يعنى صعوبة سيطرة المدرسين عليهم فى الفصول.. ويساعد على ذلك ازدحام الفصول بأعداد أكبر من طاقتها، ومن ثم يكاد البعض يحصل على دروس خصوصية فى جميع المواد فى تلك المرحلة.
ويبدو أن الطلاب يتعاملون مع تلك المراحل التعليمية الثلاث على أنها مقدمة إلى الثانوية العامة حيث «المجموع» الذى يؤهلهم للالتحاق بالكليات الراغبين فيها.. وليس التعليم الحقيقى.. بمعناه التنويرى والثقافى.. وزيادة المعرفة فى مجالات مختلفة بجانب ممارسة الأنشطة المقررة.. مثل الموسيقى والرسم والخط.. والرياضة! فقد اختفت هذه الأنشطة فى المدارس الحكومية.. ناهيك عن أنه لم يعد هناك مكتبات حقيقية فى تلك المدارس.. وإن وجدت فهى لاستكمال الديكور ليس إلا!!.
وللأسف الشديد.. فقد تحول التعليم فى مصر إلى مايشبه «حقل التجارب».. حيث المؤتمرات والندوات وورش عمل وتغيير مناهج واختصار سنوات دراسية.. ثم إعادتها مرة أخرى.. وكذلك الشهادة المتممة للمراحل الثلاث وهى «الثانوية العامة».. والتى تحولت إلى «فزاعة» للبيوت والأسر المصرية.. بسبب تكلفة الحصول عليها أولًا، ثم أنها عنق زجاجة لما بعدها.. أى فى تحقيق رغبة الطالب فى دخول الكلية الراغب فيها ومن ثم الحصول على شهادة فى التخصص الذى حلم به طوال حياته سواء كان.. مهندسًا أو طبيبًا أو إعلاميًا..إلخ.
والمشكلة أيضًا أن المناهج التعليمية المقررة مازالت تخاطب عادة الحفظ عند الطلاب وليس فضيلة الفهم والاستنارة، أضف إلى ذلك التنوع الرهيب فى العملية التعليمية فى مصر.. فهناك أولًا التعليم العام، ثم الفنى ثم الأزهرى، ثم اللغات، وهناك أيضًا المدارس الحكومية، والخاصة، والأجنبية، والتجريبية، والتابعة لجمعيات، وأخرى لسفارات.. وبعضها لا يخضع لإشراف الوزارة المعنية لا إداريًا ولا فنيًا!
والأغرب من كل ما تقدم أن خريجى مدارس اللغات أو المدارس الخاصة ذات المصروفات الباهظة.. ونسبة كبيرة منهم من أبناء الأثرياء.. يستكملون تعليمهم فى الخارج.. وبالطبع يستكملون حياتهم كلها فى ذات الدول المتقدمة، وهو ما يعنى فى النهاية «تجريف» منظم للعقول المصرية والشباب المؤهل لتحمل المسئولية مستقبلًا.
وأعتقد أن المشكلة الأساسية التى يعانى منها النظام التعليمى فى مصر تتمثل فى غياب «الجدية» سواء من قبل أغلب الطلاب أو بعض المدرسين ومن ثم فقد تلقيت بسعادة بالغة أخبار زيارة الرئيس السيسى لبعض المدارس اليابانية واتفاقه مع الجانب اليابانى على إرسال بعثات طلابية مصرية إلى اليابان لاستكمال تعليمهم هناك..، وهو ما فعله محمد على من قبل عندما أرسل البعثات إلى أوروبا واستخدم العائدين فى بعث النهضة المصرية فى بداية القرن التاسع عشر.
التعليم.. يا سادة مازال الطريق المشروع لانتقال الطبقات من الأدنى إلى الأعلى، كما أن مخرجاته من البشر المؤهلين هم صانعو التقدم المرغوب والنهضة المطلوبة.
فاخلعوا «ملابس المزيكا» عن التعليم فى مصر واهتموا بالمضمون والمخرجات.. أثابكم الله.