

د. أحمد الديب
رحم الله أبي.. رحم الله آبائكم
بقلم : د. أحمد الديب
ما أكثر الرسائل التي تبعث بها الأقدارُ إلي الأبناء الذين يشهدون تحول آبائهم من منازل الدنيا إلي منازل الآخرة . يوم يُتَوَفي الآباء ، يوقن الأبناء أن جيلاً قضي ليتولي جيل .. هكذا وبهذه البساطه وبهذه السرعة يودع الأبناء آبائهم ، فينتظرون دورهم حين يودعهم أبنائهم . توقن أن الزمن تخترقه أحداث توقفه للحظات ، ثم ما يلبث أن يستعيد الزمن هرولته حتي تخترقه أحداث أخري حين يسلم جيل قديم الدنيا والمسؤولية إلي جيل جديد!.
ما من هزة نفسية أكبر من هزة موت الأب ، وإن لم تعبر عنها الدموع وإن أخفتها قوة مصطنعة حتي لا يطلع علي ما يهزك أحد . لا يزال الرجل طفلاً حتي يفقد أباه ، فإذا به يتحول في يوم وليلة من الطفولة المعتمدة علي الغير إلي النضج المرتبك ، كالثمرة التي تنضج قبل أوانها . وكما ان الحوادث الجسام تصنع الرجال ، فإن حادثة موت الأب هي أكثر الحوادث جلالاً ، تترك فيما تترك ذلك الحزن المزمن الذي يرافقك كظلك في حل وترحال.
تنشد الاستقلالية وأنت في كنف الأب وتطمح بها ، فإذا انتقلت إليك سلطة اتخاذ القرار وتحملت مسؤوليات لم تكن لتهتم بها سلفاً ، أيقنت أن الأمر ليس بهذه السهولة التي كنت تعتقدها . تكتشف أنك كنت من التدليل إلي الحد الذي يحاول فيه الأب أن يخفي عنك آلام الحياة فلا يقحمك في أعبائها وأنت تشق طريقك إلي ما تمناه لك من حظ أوفر . يوفر لك كل ما تحتاج إليه حين تريد دون أن يشغلك بمصاعب الاكتساب . ولكن الدنيا تأبي أن يشهد الآباء أُكُل أشجارهم التي غرسوها فسائلها بأيديهم وأَوْلَوْها بالرعاية والسقاية ، فإذا ما آتت ثمارها فاستوت على السُوق ، ينتقل الأب إلي الرفيق الأعلي عسي ربه أن يؤتيه ما هو خير من جنة الدنيا.
كان أبي رحمة الله عليه أكثر من رأيت توكلا علي الله ، ليس التوكل المعرفي الفلسفي الذي نعتنقه ولا نعمل به . إنه التوكل الممتزج مع الذات والمتماهي مع الشخصية والمختلط مع التكوين . كنت اتمني ان أرث التوكل الذي يجعل الإنسان غير مكترث بالمصاعب مع وعيه التام بها . إنها القوة الخارقة التي تجعلك تنام بمجرد أن تطأ رأسك الوساده بينما تموج الدنيا من حولك بكل ما يقض المضاجع . إنها القوة التي لا ترتبط إطلاقا بجودة الوسائد ، أمريكية كانت أم أوروبية ، بل ترتبط كل الارتباط بما يقذفه الله في قلبك من سكينة وسلام داخلي ، فإذا ما أغمضت عينيك ، تغط في نوم عميق ، وإن كنت تستلقي علي كنبة صغيرة أو دكة الصعيد التي غالباً ما تكون بلا وسادة .
هكذا تكون النعم وإلا فما النعم ! ، أن تنام مبكراً بمجرد أن تريد النوم وتستيقظ حين تريد الإستيقاظ بلا أجراس منبهات قديمة أو نغمات منبهات حديثة . فإذا صدح المؤذن "الله اكبر" تفتح عينيك لتتجه إلي حيث أتي الصوت وكأنها تحركات لا إرادية وخطوات أنت مُسير عليها لا مخير فيها ، فلا هم يثقل جسدك ، ولا مرض يستطيع أن ينال من توجهك إلي الله بالروح والقلب قبل الجسد. وما أن تُخضع الروح والقلب وتُوكلها إلي قوة هي أكبر من قوتك ، تُدَبر لك أمرك فتحسن التدبير، فتنام قرير العين هاديء البال ثقة بمن وكلت نفسك وأمرك إليه.
قد ينكر العلم الحديث مفاهيم هامة كالبركة ، تلك التي تجعل القليل كثيراً والصغير كبيراً والضيق واسعاً ، وهي المفاهيم والمعاني التي لا تكاد تقرأها في الكتب بل تعيشها واقعاً مهما انكرتها مفردات إدارة الأعمال والرياضيات والمنطق . لقد عاش جيل الآباء ومات في ظل هذه المعاني والتي تتضائل معايشتها أو ينتقص الإيمان بها من جيل إلي جيل . تلك البركة التي لا تعترف لا بفخامة موائد ولا بجودة طعام ، فتضفي علي كل شيء طعماً قلما تجده في أجواء البوفيهات المفتوحة أو الموائد الفاخرة أو الأطعمة المنضجة خطوة بخطوة طبقاً لكتب الطهي الملونة .
كل ما عليك هو أن تلاحظ كيف صعدت البركة إلي السماء بموت أبيك ، أو أنها آثرت أن تصطحب صاحبها إلي مثواه الأخير . فإذا بك وإن من الله عليك ببحبوحة من العيش لم تكن علي أيام أبيك ، إلا أن طعم كل شيء قد تغير ، وإذا بالنوستالجيا تؤدي بك إلي الحنين إلي " الطبلية الدائرية " ، وما عليها من خبز نضج بحلال الكسب ، وفي أحسن الأحول عدد من قطع اللحم بعدد أفراد الأسرة في طقوس إحتفالية أسبوعية تواكب فعاليات سوق البلدة الأسبوعي.
إن الاجترار الدائم لذكريات أبيك المليئة بالتضحية والإيثار والعطاء ، يستلزم الولاء والوفاء والذي يتجاوز الدعاء والترحم إلي الاضطلاع بمهامك . ها أنت مسؤول عن جيل جديد ، فكلما أرهقتك أعباء المسؤولية تذكرت أن ما تفعله مع أولادك ليس فعلا و انما هو رد فعل لما صار معك . إنه العدل إن لم يكن الوفاء ، غير أن أعبائك أقل بكثير من أعباء أبيك مع التطور النسبي في إمكانياتك . لا بد أن يحقق أبنائك تطور نسبي مماثل في إمكانياتهم بالنظر الي إمكانياتك . لن تتطور الأجيال إلا بمراعاة هذا المفهوم وتطبيقه .
هكذا تتغذي الشجرة من أسفل إلي أعلي في عملية مستمرة تتقاطع مع الزمن . وأي جيل يتواني عن التغذية الصاعدة أو يتقاعس عن مهامه تجاه ما يليه من أجيال، يحدث الخلل ، والخلل يؤدي حتماً إلي خلل أكثر عمقاً وأفدح تأثيراً . هكذا تُبني الأسر ثم الأمم في حراك دائم مستمر للزمن الذي يتسارع أكثر من ذي قبل . الضمانة الوحيدة للبقاء تكمن في هذا المفهوم في رأيي والذي هو مفهوم فطري لا يخضع بتاتاً للفلسفة بدليل أن الآباء قد وَعَوه وقاموا بمقتضاه دون أن تعنيهم الفلسفة والمنطق . وإذا كان الآباء قد نجحوا في اختبار الحياه علي أكمل وجه ثم قَضوا نحبهم لتتسلم من بعدهم تفاصيل وأعباء ذات الاختبار ، ها نحن نترحم ونتندر بسيرة آبائنا ، فهلا نجحنا في الإختيار، لنجد من يترحم علينا ويتندر بسيرتنا؟!