

د. طه جزاع
لا سياحة بلا تسامح .. وابتسامة!
بقلم : د. طه جزاع
قدر لي أن أزور العاصمة الماليزية كوالالمبور خمس مرات خلال أقل من عام ونصف، غير انني أكتشف في كل زيارة شيئاً جديداً، ومعلومة جديدة ، ذلك ان هذا البلد الآسيوي الذي صنع معجزته الاقتصادية والسياحية بنفسه وارادته وحكمة سياسييه وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق الدكتور مهاتير محمد الذي تولى رئاسة الوزراء لمدة 22 عاما ( 1981 –2003 ) يعد من البلدان السياحية المتميزة ليس في آسيا وحدها بل في العالم أجمع ، ولما كانت السياحة نهرٌ من ذهب كما توصف عادة ، فأن الحكومات في البلدان السياحية ومنها ماليزيا تحرص اشد الحرص على استقطاب السياح من مختلف أنحاء العالم بتقديم مختلف التسهيلات ابتداءً من وصول السائح الى المطار وحتى مغادرته ، تسهيلات في المواصلات والاتصالات ، وفي حرية الحركة والتنقل، وفي المعاملات المصرفية ، وفي اختيار الفنادق والمنتجعات السياحية المنتشرة على طول الولايات والجزر الماليزية ، فضلا عما هو متوفر في العاصمة كوالالمبور من مولات عصرية وأسواق شعبية متنوعة وفنادق راقية ومعالم آثارية وثقافية وأماكن ترفيهية ، وشبكة مواصلات حديثة ، والأهم من ذلك كله الابتسامة الماليزية المتميزة في التعامل مع الزائر التي تجدها أينما ذهبت ، مع كلمات الترحيب والشكر ان شئت ان تدخل محلا للتسوق ، ولا يهم أن اشتريت شيئا أم لم تشتر ، فأنك ستسمع (Thank You) في كل الأحوال بصوت ناعم مميز ، مع ابتسامة تشيعك حتى الباب!
لن أحدثكم عن ماليزيا والماليزيين طويلا ، فذلك يحتاج الى مقالات ومقالات ، وقد تجمعت لدي خلال زياراتي المتعددة ، الكثير من المعلومات والانطباعات والتجارب والصور التي قد أفكر يوما - إن طال بنا العمر وتهيأت الظروف المناسبة - في جمعها وترتيبها بكتاب من أدب الرحلات ، يحكي عن هذه البلاد وشعبها المثابر الذي هو خليط من أعراق وديانات وملل ونحل ولغات ولهجات وعادات ، وَحدّها العيش المشترك في بلدٍ واحدٍ يهيء الفرص للجميع من أجل رفاهية العيش في أمن وتوافق ووئام ومصالح مشتركة ، فالشعب الماليزي مكون أساساً من ثلاثة أعراق أساسية هم المالويون والصينيون والهنود فضلا عن أعراق ثانوية اخرى ، ومن أديان عديدة ، مسلمون ومسيحيون وهندوس وسيخ وبوذيون وغيرهم ، ويتحدثون لغات ولهجات لا حصر لها ، لكنهم اعتمدوا الانكليزية لغة تفاهم فيما بينهم ، ومن المؤكد والطبيعي ان بعض الصراعات العرقية والدينية قد حدثت في بدايات تكوين هذه البلاد ، غير ان الجميع انتهوا الى حقيقة ان العيش بسلام في بلدٍ واحدٍ ، هو الأمل الوحيد لهم ، وللأجيال المقبلة ، وهو طوق النجاة في خضم بحر السياسة العالمية الهائج .
في كوالالمبور تُعد شبكة المواصلات العنكبوتية لوحدها متعة سياحية ، فوسط المدينة مرتبط بأحيائها وأطرافها ومعالمها وأماكنها السياحية بشبكة من قطارات الأنفاق المسيرة والمراقبة الكترونيا من دون سائق للمسافات الطويلة نسبياً ، وهناك القطار القصير ( المونوريل ) للمسافات القصيرة وسط العاصمة ، وهناك أيضا قطارات للمسافات البعيدة كالذهاب والعودة من المطار البعيد عن مركز المدينة ، أو الذهاب للأماكن السياحية البعيدة ، وتتوفر فيها عادة المقاعد الوفيرة والمريحة بسبب طول الرحلة ، ويجد السائح متعة حقيقية وهو يتنقل بين قطارات هذه الشبكة التي تتوقف في عشرات المحطات ، وفي كل محطة لابد من وجود شيء مميز يستحق المشاهدة !
ولأن السياحة تعني فيما تعنيه الإمتزاج الحضاري ، والتقاء الثقافات ، والتعرف على العادات ، والتاّلف الانساني ، بعيداً عن اخلاقيات التعصب والانكماش والتخندق ، فقد اكتسب الماليزيون صفة التسامح وتقبل الاّخر ، وأينما تجولت في كوالالمبور فستجد المسجد والكنيسة والمعبد الهندوسي والمعبد البوذي ، كلها مفتوحة للجميع ، وكلها تدعو للتسامح والتعايش والسلام ، فالبلد بلد سياحي ، ولا سياحة بلا روح سمحاء ، وخلق في التعامل ، وعقل منفتح على الاّخرين!