عاجل
الأربعاء 27 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
الوجودية العربية وتسابيح ما قبل الرحيل

الوجودية العربية وتسابيح ما قبل الرحيل

بقلم : د. عصمت نصار

4)  نكوص  أم ردة



ما برحت كتابات السلفيين المحافظين وكذا النقاد المعاصرين والمحللين المتخصصين في الفكر العربي الحديث، تتهم عبدالرحمن بدوي بالتنكر لنزعته الوجودية العلمانية الحرة التي برزت في كتاباته منذ عام 1945م إلى صدور موسوعته الفلسفية عام 1984م. إذ وُصف عبدالرحمن بدوي في كتاباتهم بأنه أكبر مروج للوجودية الإلحادية في الثقافة العربية الإسلامية، وأنه قد تتلمذ على العديد من المستشرقين الماديين وكذا المجترئين في الثقافة العربية من أمثال طه حسين. وعلى مقربة من ذلك يشير غسان إسماعيل عبدالخالق في مقال له بعنوان (مراجعات في أدب الاستشراق "عبدالرحمن بدوي وموسوعة المستشرقين") إلى أن عقيدة بدوي كانت أقرب إلى إنكار الإلوهية والقول بنظرية المصادفة في وجود الأشياء وليس الخلق، وأن أخلاقياته كانت أقرب إلى العبثية والمجون منها إلى الاعتدال والاتزان . ويضيف عبدالقادر الغامدي في كتابه (عبدالرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي ومنهجه في دراسة المذاهب عرض ونقد) أنه عاد في أخر أيام حياته إلى حظيرة الإسلام وتاب وأناب عن كل ما فات من مروق وتجديف في كتاباته عن الإلحاد وتصريحاته عن مزايا الفلسفة الوجودية، تلك التي ذكر فيها أنه موحد في إلحاده، وأن في وثنيته صفاء التوحيد، وربط نظريتي الحلول والاتحاد بالفلسفة الوجودية والثيوصوفية الماسونية. أما في كتاباته المتأخرة فقد عُني فيها بدراسة قضايا علم الكلام والعقيدة ودافع عن القرآن والنبي محمد ضد هجمات المستشرقين ومن أقواله في ذلك ، ما ذكر في الحديث الذي نشر على صفحات مجلة الحرس الوطني السعودية وأجراه معه صلاح حسن رشيد وجاء فيه «لا أستطيع أن أعبر عما بداخلي من إحساس بالندم الشديد، لأنني عاديت الإسلام والتراث العربي لأكثر من نصف قرن، أشعر الآن إنني بحاجة إلى من يغسلني بالماء الصافي الرقراق، لكي أعود من جديد مسلما حقا، إنني تبت إلى الله وندمت على ما فعلت..».

ويضيف ماهر الشيال على صفحات البديل أن عبدالرحمن بدوي انقلب على كل آراءه الملحدة وذلك في كتاباته المتأخرة التي دافع فيها عن القرآن والنبي وذلك عند بلوغه سن الثمانين وأنه وعد بأنه لو طال به العمر سوف يسخر قلمه للكشف عن أباطيل المستشرقين ومزاعمهم وأكاذيبهم تجاه الثقافة العربية والعقيدة الإسلامية (مسقطا كل دعاوى الغرب الذي داست عقلانيته وموضوعيته بالأقدام – حسب قوله- في لُجة الهجوم المرضي على محمد ودينه، حتى ممن يعتبرهم الغرب علماء كبارا كـ فرانسيس بيكون وهوجودوجروت وهوتنجر وشبرنجر وغيرهم). وقد بين في دفاعه عن محمد والإسلام أن مثل هذه الكتابات الغربية قد تأثر بها في مطلع حياته وقد تبين له أنها تنطوي على جهل معرفي وجهالة أعياها التعصب الملي والمذهبي.

كما ذهب يونان سعد إلى أن عبدالرحمن بدوي قد نجح في إثبات أن المفكرين الملحدين من أمثال ابن الراوندي والرازي وغيرهما قد ساهموا في تشكيل بنية الحضارة الإسلامية ويعني ذلك أن الإيمان بعقيدة محمد لم يكن هو التيار الأوحد لإنتاج هذه الحضارة، بيد أن التيار الإلحادي كان له الأثر الأكبر ليس في ميدان العلم والفلسفة فحسب بل في ميدان العقيدة أيضا، وأن فقهاء الإسلام قد تأثروا بهذا التيار. وأنه نجح كذلك في التمييز بين الإلحاد الغربي المنكر لعقيدة الإلوهية والإلحاد في الثقافة العربية الجاحد لنبوة محمد. الأمر الذي يؤكد أن بدوي قد أراد الانتصار للتيار الوجودي الحر الذي لا يؤمن إلا بما يقتنع به ويؤثر في شعوره، وأن هذا التيار لم يكن هدامًا أو جاحد للعلم بل كان له إسهاماته التي طمسها المؤرخون والمتدينون.

بينما يرى خالد أبوالروس في مقال على صفحات النهار أن بدوي أكبر فيلسوف وجودي عربي دافع عن ثوابت العقيدة الإسلامية. وأنه على الرغم من تحمسه وإعجابه بفلسفة هايدجر الذي عبر عنه بقوله "فلسفته –أي بدوي- هي الفلسفة الوجودية في الاتجاه الذي بدأه هايدجر .. وتمتاز عنها بالنزعة الديناميكية التي تجعل للفعل الأولوية على الفكر، وتستند في استخلاصها لمعاني الوجود إلى العقل والعاطفة والإرادة معا وإلى التجربة الحية". ذلك فضلا عن مسايرته لهايدجر في رسالته للماجيستير (مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية) تحت إشراف الفيلسوف الفرنسي لالاند عام 1941. إلا أنه في الحقيقة كان أميل إلى فلسفة كيركجارد التي تمثل الوجودية المؤمنة بوجود الله كحقيقة لا يمكن إنكارها ولا تحد في الوقت نفسه من حرية الإنسان. وإلى مثل هذا الرأي يقرر الصديق/ عصام عبدالله –على صفحات مجلة الحياة ببيروت- أن وجودية بدوي في كتابه الزمان الوجودي كانت أميل للوجودية المؤمنة واستدل على ذلك من قائمة مصادر الكتاب التي حفلت بمؤلفات غابرييل مارسيل، وكارل ياسبرز، وكيركجارد وغيرهم. وأن تأثره بهايدجر وقف عند حد رؤية الأنا للزمان وحرية الإرادة الإنسانية في الاختيار والأرق الذي تعانيه الذات من قلق الموت. وعليه فهو لا يعد كتابات بدوي المتأخرة عن الإسلام ومحمد نكوثا أو فشلا في الترويج للفلسفة الوجودية بين المثقفين العرب، وذلك لأن بدوي كان طيلة حياته يكتب عن الحضارة الإسلامية وفلاسفة الإسلام بجانب ترجماته ومصنفاته عن الفلاسفة الغربيين، أي أنه لم يكن ملحدا أو مستغربا ولا سلفيا تقليديا أو معاديا للعقل أو التناول النقدي للكتب المقدسة بل كان يجمع بين هذا وذاك لإثراء الفكر العربي الحديث شأن المفكرين الموسوعيين في عصره. وقد استفاض في ذلك آخر تلاميذ بدوي وهو سعيد اللاوندي الذي أكد أن رحلة بدوي الفكرية لم تفلح في الزج به في أتون الإلحاد وتحشره في زمرة المنكرين لوجود الله. وإذا استثنينا من ذلك تصريحه في كتابه (الزمان الوجودي) عام 1945الذي اعترف فيه ((بأنه فيلسوفا وجوديا يسير على نهج هايدجر في فهمه للحرية والهوية والإرادة الإنسانية ومشكلة الموت)) وذلك لأنه في هذه الفترة كان شابًا متأثرًا بتصريحات هايدجر الجريئة وأن تشجيع طه حسين له دفعه إلى أن يكون أقرب إلى الاجتراء والجموح الوجودي منه إلى الاعتدال والتريث، أي أن آراءه المجترئة لا يمكن تصويرها على أنها مذهب إلحادي قد تبناه بدوي، وقد أكد ذلك محمود أمين العالم وأنور عبدالملك وإمام عبدالفتاح إمام وغيرهم من تلاميذه الذين بينوا أن بدوي لم يكن ملحدًا أو طاعنا في العقيدة أو مسايرًا لوجودية هايدجر الإلحادية، وفي ذلك يصرح الأخير بأن ما فعله أستاذه بدوي تجاه القرآن ونبي الإسلام محمد لا يبرهن فقط على قوة إيمانه بل يكشف عن رغبته في توضيح أكاذيب المستشرقين تجاه الحضارة والعقيدة الإسلامية.

وحري بي الإجابة عن السؤال المطروح هل كانت كتابات عبدالرحمن بدوي المتأخرة عن القرآن وسيرة النبي ردة أم نكوص أم عودة إلى بدء؟

لقد كان لكتابات عبدالرحمن بدوي عن الإلحاد عظيم الأثر على نزعته الارتيابية أو إن شئت قل الجنوح عن الدين والفكر الديني السائد آن ذاك. فها هو يصرح في تصدير كتابه (من تاريخ الإلحاد في الإسلام) (1945) أن فكرة الإلحاد فكرة مشروعة في كل الثقافات والحضارات، وأنها تظهر كرد فعل مباشر لعدم قدرة العقل الواعي على تقبل النصوص المقدسة التليدة، الأمر الذي دفع بعض فلاسفة اليونان إلى الشك في وجود الآلهة ونقض وإنكار بعض فلاسفة الغرب الحديث لفكرة وجود الله. أما في الثقافة العربية –على حد تعبيره- فإن فكرة الإلحاد تمركزت حول إنكار عقيدة النبوة باعتبارها وسيط بين الخطاب الإلهي والعقل البشري. وقد ساهمت –في رأيه- الشعوبية وحركة الاستنارة العقلية والتقدم العلمي التجريبي في القرنين الثالث والرابع الهجريين بخاصة والعصر العباسي بعامة في ذيوع الإلحاد المنكر للنبوة والتعويل على العقل والتجربة العلمية في استنباط المعارف وتحصيل الحقائق عوضًا عن الوحي. ذلك فضلا عن النزعة الحسية التي تجسدت في شعراء المجون حيث التصريح بأن الرغبة والشهوة وما يصاحبها من متعٍ مادية لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها أو التضحية بها استجابة للإيمان العقدي، ناهيك عن تصريح الملاحدة والزنادقة بنقوضهم واعتراضاتهم وتشككاتهم حيال النص القرآني وسنة النبي. وقد وصف عبدالرحمن بدوي كل هذه المظاهر بأنها (من أخطر النزعات التوجيهية في الإسلام ومن أطرف وأخصب تيارات الإلحاد العالمي في تاريخ الإنسانية الروحي).

وفي كتابه (شخصيات قلقة في الإسلام) الذي صدر عام 1946م ، أن القلق والتوتر يعد ظاهرة صحية إذا كان رد فعل مباشر للإيمان الظاهر ورغبة من الأنا في النفوذ إلى الجوهر وباطن النصوص الزاخرة بالمتناقضات والرموز الدينية التي ينبغي على الذات تمحيصها للوقوف على حقيقتها، فالنصوص القاطعة التي تحوي فصل الخطاب لا تقوى على تحولات الأزمان وتباين الرؤى، أما النصوص القابلة دوما للتأويل لاستيعاب الآراء المتباينة هي التي سوف يكتب لها البقاء ويقول: "والدين الذي يقدم نفسه على أنه ناموس واضح كامل الأجزاء صريح في كل تفصيلاته قد فض للناس كل ما فيه من مضمون على مر الأجيال والأزمان، هو دين مقضي عليه بالموت العاجل أو التحجر السريع، وكلاهما في نهاية الأمر سواء. وكلما تعددت التفسيرات لهذا الرمز وبلغ التعدد مرتبة عالية من الافتراق الرفيع، كان هذا من أوضح الشواهد على أن هذا الدين حي وخليق بالبقاء". ويعني ذلك أن بدوي أراد أن يثبت أن التمرد الوجودي لا يعد دربا من دروب الجنوح السلبي الراغب في هدم المألوف بل هو رغبة تحررية عن كل السلطات التي تحول بين الذات لتفهم الواقع بكل ما فيه حتى لو كان هذا الواقع يشتمل على نصوص مقدسة. وعليه فإن هناك إرهاصات للنزعة الوجودية غير المكتملة في كتابات عبدالرحمن بدوي السابقة على الرواية التي نحن بصددها. وقد ذهب بعض النقاد –كما بينا- إلى أن مثل هذه الكتابات كانت بمثابة الجراثيم الأولى لتطرف عبدالرحمن بدوي الديني وتحيزه للفلسفة الوجودية. غير أنني أعتقد أن كتاب أو رواية (أوهام الشباب) تمثل حالة القلق النفسي والروحي التي كانت تعتري عبدالرحمن بدوي، وليس أدل على ذلك من الكلمات التي قدم بها محاضراته عن (الإنسانية والوجودية في الفكر العربي) التي نُشرت عام 1947م، وهي تكشف بوضوح عن حاجة بدوي إلى أستاذه مصطفى عبدالرازق لإنقاذه من آفات وموجات الشك والقلق والتوتر، تلك التي كانت تنتابه، كلما نظر إلى الثقافة الإسلامية من نافذة الفكر الوجودي. فها هو يقول: "إلى روح أستاذي الأكبر مصطفى عبدالرازق: بروحك الممتازة بهرتني بنور الإيمان وأنا في موجة الشباب المتمرد، وتجسدت نموذجا للإنسانية في بيئة ضاع فيها معناها، فأعدت إلي الثقة بالإنسان، أواه؛ بالأمس كانت روحي تصرخ من عمائق هاوية العصيان، فلا تجد غيرك يستمع لهذا الصراخ، فمن لي اليوم بمن يردني من العصيان إلى الإيمان، ومن الثورة إلى الإذعان؟! وبالأمس كان من أعز أماني أن أهدي إليك كتبي يدا بيد، فهل لي اليوم أن أطمع في إهدائها إليك روحا لروح؟".

وعلى ذلك فيمكننا اعتبار رواية (أوهام الشباب) تجربة وجدانية صادقة عبر فيها المؤلف عن ارتيابه في البنية المعرفية التي كان يحصلها من رافدين هما الكتب التراثية الصفراء الشاغلة بالسياقات المضطربة والأخبار المشوشة والأقوال المبتورة، وتحقيقات المستشرقين ومؤلفاتهم النقدية عن الثقافة الإسلامية. والمعروف أن الشيخ مصطفى عبدالرازق كان رمانة الميزان في عيون تلاميذه ومعاصريه، إذ كان بحسه النقدي يثقف الفكر الموروث عن طريق التحقيق العلمي وينقي الفكر الوافد من مواطن الجهل والتعصب وسوء الفهم، الأمر الذي ينير الطريق لدراسة الفلسفة الإسلامية ومباحثها العلمية والروحية ويكشف في الوقت نفسه عن أصالة الثقافة العربية الإسلامية وإبداعاتها وإسهاماتها في بناء الحضارة الإنسانية.

ومن ثم فيمكننا تقييم كتابات عبدالرحمن بدوي المتأخرة بأنها رحلة للعود إلى بدء وتثقيف بعد جنوح ووصول إلى حقيقة طالما أعياها الشك والتردد والقلق.

ولا ريب فإن هذا الكتاب الذي نحن بصدده قد نجح في إلقاء مزيد من الضوء على وجهة بدوي الفلسفية والمؤثرات الفاعلة التي ظلت طيلة حياته تربط بين الأنا المتمردة بداخله ومشخصات الهوية التي جُبل عليها.

 تلك كانت قراءتي لكتاب عبدالرحمن بدوي في ضوء مؤلفاته ذات الصلة ونقادات تلاميذه ومعاصريه حول أصالة أفكاره ورحلاتها وسياحتها عبر الثقافتين العربية والغربية. غير أن ما يجيش بخاطري بعد قراءة هذا الكتاب هو ذلك الشعور بالدهشة الذي ما برح أن ينتابني كلما تصفحت كتابات قادة الرأي من المستنيرين المصريين على وجه الخصوص، فجل المشكلات التي أثاروها في مصنفاتهم هي التي مازلنا نعاني منها اليوم وأن اقتراحاتهم وحلولهم لها إما أن ينسبها بعض المعاصرين إلى أنفسهم أو يرغب البعض الأخر عنها باعتبارها موروث يجب إهماله. شعور يدفعني دوما للتساؤل: هل تلك الأقلام التي حررت هذه الكتابات حية إلى درجة مناقشتها تفاصيل مشكلاتنا الثقافية اليوم؟ أم إننا لم نفهم ما كتبوه ولم نعي الدرس الذي كرروه ولم نصغ إلى حكمتهم المتمثلة في الحلول التي قدموها؟ أم أن شبابنا قبل شيوخنا قد عجزوا عن الإبداع فراق لهم الطنطنة وإعادة المحكي ليوهموا أنفسهم بأنهم يفكرون؟

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز