عاجل
السبت 6 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
البنك الاهلي
عودة إلى فلسفة السؤال

عودة إلى فلسفة السؤال

بقلم : د. عصمت نصار

لعل أبسط تعريفات السؤال هو: الطلب أو الاستخبار أو الاستفسار أو الاستفهام، وفي الاصطلاح هو خطاب يوجه للأخر أو يلقى في طريق الأنا المفكرة والمتأملة والشاعرة وذلك لتفسير أو تبرير أو توضيح علة أو تبيان آلية أو تحصيل معرفة.



أما فلسفة السؤال The philosophy of the question فتذهب إلى أبعد من ذلك، ولعل السؤال السقراطي لم يكن يرمي إلى استنطاق محاوريه من أجل استخلاص إجابة، بل كانت غايته هي الكشف عن مواطن الزلل والالتباس والأوهام التي تصاحب المفاهيم المغلوطة والمشوشة في أذهانهم، وتكشف كذلك عن مدى جهل المتعالمين أصحاب الآراء القطعية والديجماتيقية. وهكذا يمضي السؤال الفلسفي في طرح الإشكاليات والقضايا التي يعجز العقل عن إيجاد إجابة قاطعة عنها فلا يتسرب الشك إليها ولا تقبل الجمع بين النقيضين في الحكم. أي أن السؤال الفلسفي في طوره النظري يتعرض للقضايا التي يمكن أن نطلق عليها الاحتمالية والممكنة وقضايا ما بعد المنطق والأحكام المعلقة. وفي الفكر المعاصر تعد فلسفة السؤال من أقوى آليات النقد والإبداع، وذلك لما تحدثه من عصف ذهني وتوليد للأفكار وفتح آفاق واسعة للتصورات، ذلك فضلا عن كونها أعظم آليات التفكير الحر الذي لا يقيده سلطة أو أيدلوجية أو معتقد. وليس أدل على ما قدمناه من استخدام إحدى أدوات الاستفهام أمام موضوعات كنا نعتقد بأنها بديهية مثل: لماذا الإنسان؟ ، ما الحب؟ ، أين الحقيقة؟ ، كيف بلوغ السعادة؟ ، من أنا؟ ، ما الوجود؟ ، لماذا نولد ونموت؟ ... فإذا نظرنا لكل هذه التساؤلات الفلسفية سوف ندرك إنها أسئلة مفخخة تريد إثارة العقل وإجهاده ودفعه إلى إنتاج رؤى وتصورات فلسفية.

كما أن فلسفة السؤال في إطارها النظري لها من المرونة ما يمكّنها من التشكل والتغلغل في كل المذاهب والنزعات الفلسفية، فإذا سألت عن العلم فإنها تستعلم عن المطلقات واليقينيات والمبادئ والمناهج، وإذا سألت عن الفن أو الأخلاق أو التربية أو السياسة فإنها لا تتبنى وجهة معينة في الطرح أو تحديد الإجابة. ومن ثم تتولد الفروق بين المدارس الفلسفية وذلك لأن السؤال يحمل بين طياته طابعها، فسؤال الفيلسوف التحليلي مثلا عن ماهية العقل يختلف عن سؤال المثالي والبنيوي والتفكيكي والمنطقي، فصيغة السؤال تحمل بين طياتها آليات الطرح وسبل المعالجة.

أما ما يميز فلسفة السؤال عن غيرها من المباحث الفلسفية هو الثراء والغيرية والاستمرار بالإضافة إلى قدرتها على التطبيق والممارسة، فما أكثر الإشكاليات والقضايا التي تولدت عن السؤال الفلسفي، وما أروع الإجابات التي شكلت أنساقا ومذاهب، كما أن وجودها في حياتنا الثقافية مرتبط بوجود العقل فلا تفكير في شيء إلا إذا سُئل عنه.

أما الأسئلة المباشرة التي تتعلق بالجزئيات من الظواهر والأحداث ويمكن للعقل الإجابة عنها بوضوح وحجة مقنعة فهي تخرج عن نطاق فلسفة السؤال، وتدرج في فلسفة التطبيق وفي السياق العملي التعليمي.

ولفلسفة السؤال عدة أساليب منها الظاهر والمستتر والرمزي والمباشر، لذا نحتاج لفهمها عدة آليات أهمها التحليل السياقي والمنهج الاستبطاني والتأويل النسقي والتحليل الدلالي والإشاري.

والجدير بالتوضيح إن فلسفة السؤال تعد من أقوى أسلحة الجيل الرابع في الحروب، وذلك لأنها تعمد إلى طرح الأسئلة المفخخة التي ترمي إلى تفكيك المفاهيم ونقض الثوابت وفتح الباب على مصرعيه للمتغيرات في ظل السياقات المغلوطة والمعارف المزيفة والأخبار الكاذبة. وإذا ما حاولنا البحث عن فلسفة السؤال في ميدان التطبيق فإننا سوف نجدها تلعب دورا لا يستهان به في طرائق الكشف عن صحة الخطابات وتفسير الأحداث وإزالة الغموض عن الملتبس من الظواهر الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية ... ومن هذا السبيل يمكننا ممارسة فلسفة السؤال في هذا الطرح.

ما الذي يدفع الطامع أو الطامح إلى السير عكس التيار فيوقظ كل خصومه ويستنفر أعداءه ويفقد أنصاره؟، هل القدرة على الجمع بين الأضداد والمتنافرات يمكن إدراجها ضمن الحكمة أم العته؟

هل الكذوب يمكن تصديقه عندما يعترف بكذبه؟، هل اللعب على رقعة الشطرنج للأذكياء فقط أم الأثرياء أيضا والأغبياء كذلك؟

لماذا يدافع الذئب عن نفسه أمام محكمة يرأسها يوسف؟

وخليق بي أن أشير إلى الدراسات الرائدة التي تناولت فلسفة السؤال في الثقافة العربية منها: دراسة عبدو أبويامن سنة 2006، دراسة أستاذنا حامد طاهر ودراسة إدريس هاني سنة 2010، ودراسة سمر حسن سليمان 2016، ، ودراسة جيلالي بوبكر، وأخيرا ما ورد في كتاباتي منذ عام 1989 بداية من كتاب دعوة العقل لقراءة إنجيل متى إلى مقال ماذا لو عام 2016.

وحري بنا أن نتساءل هل في مقدورنا تفعيل وتطبيق فلسفة السؤال في حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية لننتقل من طور الإجابات المحفوظة، والمعارف المغلوطة، والمعلومات المزيفة، والحقائق المبتورة، إلى آفاق فلسفة الإبداع؟

علما بأن السؤال الفلسفي يراوغ ولا يكذب، لذا سوف يظل أهم من مئات الإجابات التي لا تخلو من الغش والكذب.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز