يوم أفريقيا.. "هيلا سيلاسي" والرحيل الغامض لـ"الإمبراطور الأخير"
هيلا سيلاسي أحد المؤسسين الأوائل لمنظمة الوحدة الإفريقية وأمينها العام خلال دورتي "63- 1964" و"66- 1967"، آخر أباطرة إثيوپيا، وحفيد الامبراطور ساهلي سلاسي من ابنه الأكبر مايكونين ويلد ميكاييل.
ولد سـيلاسي في الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1892 وتولى حكم إثيوبيا قرابة الخمسة عقود، لينتهي حكمه عام 1974، بإنشاء حكومة مؤقتة.
بداية حكم هيلا سيلاسي
كانت بداية سيلاسي مبشرة، حيث عمد لتنفيذ عدة إصلاحات سياسية واقتصادية، استهلها بمحاولة الارتقاء بالأوضاع الاجتماعية، وتحسين جودة التعليم والمؤسسات الصحية.
وكانت أبرز قراراته إلغاء العبودية، وتغليظ عقوبتها القانونية، بالإضافة لوضع دستور موحد للبلاد عام 1931، يتضمن نصوصًا للعديد من الإصلاحات التشريعية والتنفيذية.

كفاحه ضد الاحتلال الإيطالي
تنامت الأطماع الاستعمارية في منطقة الحبشة، والدول المطلة على نقط التقاء البحرين الأحمر والمتوسط، مطلع أربعينيات القرن الماضي، والتي بلورتها إيطاليا بإعلانها أن السيطرة على تلك البقعة الاستراتيجية، تعد مفتاح السيطرة الحقيقية على القارة السمراء.
افتعلت إيطاليا مشكلة حدودية بين الصومال التي كانت تسيطر فعليًا والحبشة التي لم تنجح في إخفاء أطماعها بالسيطرة عليها، والتي تحققت فعليًا في نوفمبر عام 1935، بعد انتصارها الكاسح على الجيش الذي سيره هيلا سياسي لمواجهتها.
بعد هزيمته فر سيلاسي إلى السودان ومنها إلى بريطانيا، ليبدأ رحلة النضال السياسي ضد الاحتلال واغتصاب عرشه، ليطالب منظمة "عصبة الأمم" التي كانت دولته عضوًا فيها، باستصدار قرار ملزم يقضي بخروج المحتل الإيطالي من الحبشة.
وفي مارس 1936 أعلنت عصبة الأمم- على مضض- فرض عدة عقوبات على إيطاليا بوصفها "دولة معتدية"، وجاء الرد الإيطالي السريع بإعلان ضم الحبشة في مايو 1936، وتنصيب فيكتور عمانوئيل الثالث امبراطورًا على الحبشة، وهو القرار الذي أدى لاعتراف المنظمة بعجزها، الذي استتبعته برفع العقوبات منتصف عام 1937.
هزيمة إيطاليا ودعم بريطاني
تعالت أصوات الحركات القومية والتحررية ضد الاحتلال الإيطالي، ردًا على المذابح التي ارتكبها المارشال رودلفو جراتسياني ضد أبناء البلاد وسكانه الأصليين، ردًا على محاولة اغتياله، وخلال تلك الفترة حظى هيلا سيلاسي بدعم بريطانيا السياسي لاسترداد عرشه المسلوب، والتي عززتها هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.
وبعد عودته للبلاد واستقرار حكمه، زادت طموحات سيلاسي في السيطرة على بعض مناطق النفوذ الإيطالي بعد اندحاره، وحظي بموافقة ضمنية من هيئة الأمم المتحدة، لإقامة اتحاد بين إثيوبيا وإريتريا، بموجب مرسوم عام 1952، قبل أن يعلن ضمها رسميًا لحدود بلاده.
ثماني سنوات تنامت فيها الحركات الثورية ضد سيلاسي داخل إريتيريا وإثيوبيا، انتهت بتفجر ثورة عارمة في 13 ديسمبر 1960، مستغلة تواجد الإمبراطور في جنوب أمريكا، بيد أنه تمكن من القضاء عليها خلال أيام.
دعوته لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية
لم ينفك سيلاسي عن المطالبة بتأسيس كيان موحد يدافع عن طموحات القارة السمراء وشعوبها، عبر عدة تجمعات سياسية أبرزها مؤتمرا مونروفيا الذي عُقد في ليبيريا عام 1961، ولاجوس عام 1962، اللذان انبثق عنهما مشروع "منظمة إفريقيا".
وبدأت الإرهاصات الأولى لتحقق هذا الحلم، خلال اللقاء التاريخي الذي جمع بين الرئيس الغيني "سيكو توري" و"سيلاسي" عام 1962، والذي أسفر عن عقد مؤتمر أديس أبابا في مايو 1962، بحضور ممثلي 30 دولة إفريقية.
بدأ المؤتمر بخطاب مؤثر ألقاه سيلاسي وانتهى بعدة نقاشات استقرت وتبلورت بالتوقيع على ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية في مايو 1963، واختيرت الحكومة الإثيوبية لتكون جهة إيداع وثائق التصديق على الميثاق، وتسجيله لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، علاوة على اختيار أديس أبابا مركزًا لمنظمة الوحدة الإفريقية، التي تحولت فيما بعد إلى الاتحاد الإفريقي.

الإطاحة بآخر الأباطرة
تعالت الأصوات المطالبة بإنزال سيلاسي عن عرش البلاد، وتحسين مستوى المعيشة بعد تنامي الفساد الحكومي، منذ منتصف الستينيات، قبل أن تحظى بدعم عسكري من قيادات الجيش، على خلفية مجاعة عامي "1972- 1973".
وبعد عام واحد تحركت مجموعة من العسكريين بقيادة منجستو هيلا مريام وأطاحت بآخر أباطرة الحبشة وأزاحته عن حكم البلاد بعد 45 عامًا قضاها على العرش.
وفاة غامضة
في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام 1975، أعلن التلفزيون الرسمي عن وفاة هيلا سيلاسي، نتيجة فشل الجهاز التنفسي، بعد تدهور حالته الصحية، وحدوث عدة مضاعفات بعد تدخل جراحي في منطقة البروستاتا، وهي المسألة التي نفاها طبيبه الشخصي رافضًا الرواية الحكومية المزعومة.
وأيدت الصحف الغربية والمراسلون الأجانب تلك الشكوك حول حقيقة وفاة سيلاسي الغامضة، وما إذا كانت هناك شبهة جنائية من عدمه.
وفي 1991 تمت موارة رفاة الإمبراطور السابق التراب ودفنها في حمامات القصر الإمبراطوري عام 1991، ليعُثر عليها بعد ذلك أسفل أحد مراحيض القصر بعدها بعام، ليتم استخراجها والاحتفاظ بها داخل كنيسة "بآتا مريم"، قبل إعادة دفنها بجوار بقية أفراد العائلة في كاتدرائية الثالوث.
وما بين الشك والتأكيد ظلت قصة وفاة سيلاسي "الغامضة" مرتعًا خصبًا للقصص والتأويلات، وثارت بعض التكهنات بحدوث مذبحة راح ضحيتها أفراد العائلة المالكة.

تبادل للاتهامات وجنازة ملكية
بعد مرور 25 عامًا من وفاة سيلاسي أُقيمت له مراسم "جنازة ملكية" على الطراز الإمبراطوري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وتمت مراسم الدفن بكاتدرائية الثالوث المقدس.
شهدت الجنازة ارتداء القساوسة ثيابهم التراثية الفخمة، فيما اصطفَّ قدامى المحاربين داخل الكاتدرائية، بقبعات يزينها "شعور الأُسود"، بحضور عدد من أفراد العائلة المالكة السابقة، وعدة آلاف من المشيعين.
وردت الحكومة الإثيوبية برفض شديد، لمنح تلك الجنازة صفة "الرسمية"، واعتبرتها شأنًا عائلياً، فيما اتهمت الإمبراطور الذي حرر إثيوبيا من الاحتلال الإيطالي بـ"الظلم" والبطش بشعبه خلال 45 عامًا قضاها في الحكم.
وكان الإمبراطور البالغ من العمر ثلاثا وثمانين عاما قد احتجز داخل قصره عقب الإطاحة به، ليلقى نحبه- بعد عام واحد- في ظروف غامضة، فيما رجح الكثير من المحللين أنه قُتل على يد محتجزيه.
ورغم النهاية الحزينة سيظل التاريخ شاهدًا على جهود "سيلاسي" كأحد أبرز المؤسسين لـ"منظمة الوحدة الإفريقية"، علاوة على دوره الكبير في مقاومه الاحتلال الإيطالي لبلاده في ثلاثينيات القرن الماضي.



