عاجل
السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
ثورة فكريّة.. عودة الوعي

ثورة فكريّة.. عودة الوعي

تصوّرت جماعات الإسلام السياسي أنها نالتْ "الجائزة الكبرى" أخيرًا، فها هي مصر، بكل تاريخها وكامِل حضاراتها.. قد وقعت تحت سلطتهم من الآن وإلى الأبد.



حين عملت مستشارًا للرئيس السابق عدلي منصور في أعقاب سقوط جماعة الإخوان، قال لي مسؤول بروتوكولي رفيع المستوى في قصر الاتحادية.. إنه سمع من مسؤول كبير في "الرئاسة والجماعة" قبل السقوط وهو يقول واثقًا: سنمكث في الحكم مئات السنين، وقال آخر مزايدًا، بل سنمكث إلى قيام الساعة، حتى نسلم الراية للسيد المسيح.

لم تكدِ تمضي شهور على ذلك حتى استعاد المصريون دولتهم ومستقبلهم.. ففي لحظة مذهلة من "عودة الوعي" قرر الشعب أن يقول: لا.. حتى هنا كفى.

لقد دعت تلك السنة العصيبة التي كادت تدفع البلاد إلى حافة الهاوية، إلى دراسة أكبر وأعمق لفكر أولئك الذين يتحدثون عن الآخرة ويعملون لأجل الدنيا، ويردِّدون كاذبين: هى لله.. هى لله.. لا للسلطة ولا للجاه، بينما هى للسلطة والثروة.. للاستكبار والجاه.

في كتابي "الجهاد ضد الجهاد" تعرضت في واحدٍ وأربعين فصلاً، لحالة الإسلام السياسي في العالم.. على مستوى الفكرة وعلى مستوى الحركة.

وتقديري أنّه يتوجب دومًا، ولأجل فهم تحديات التطرف الديني وكارثة الإرهاب، عدم إهمال الفكرة بسبب ضغط الحركة، أو تجاوز المزاعم الدينية تحت وابل حروبهم الإعلاميّة.

هذه سطور عن جوانب من السياسة والفكر لدى جماعات الإسلام السياسي، التي حاولت اختطاف مصر في "جمعة قندهار" الشهيرة في ميدان التحرير، ونجحت في اختطافها برلمانًا ورئاسة بعد قليل من تلك الجمعة الفاشيّة. لكنّ الشعب صاحب التاريخ الاستثنائي نجح بملايينه الثلاثين الثائرة، وجيشه الماجد الذي اختار الانحياز للوطن والمواطنين.. قد تمكن من تحطيم اليأس واستعادة الأمل.

1- جغرافيا الإسلام.. النانو دولة

 

على امتداد العالم الإسلامي.. وقف الإسلاميون ضدّ الإسلاميين.. قتلَ المجاهدون المجاهدين.

واليوم يعيش العالم العربي والإسلامي مشهدًا داميًا في "الحرب الأهلية الجهادية": تنظيم "القاعدة" ضد تنظيم "داعش"، وشيوخ الجهاد القديم ضدَّ نجوم الجهاد الجديد، وحزب التحرير الإسلامي الذي قضى ستينَ عامًا يدعو للخلافة..  يعارض تنظيم داعش الذي أعلن الخلافة!

إن الصراعات والمزايدات بين الحركات الإسلامية "لا نهائية" وسوف يُصدم القارئ إذا حاول أن يعرف رأى المتطرفين في المتطرفين، ورأي الجهاديين في الجهاديين.

 

 

باتَ العالم الإسلامي يمتدُّ من "طالبان" شرقًا إلى "بوكوحرام" غربًا.. ومن "داعش" شمالاً إلى "القاعدة" جنوبًا!

كلُّ الأديان تعيش في سلامٍ إلاّ الإسلام، وكل أتباع الدياناتِ ينعَمون بالهدوء إلا المسلمين!

 

زرتُ المملكة الأردنيّة لحضور جانبٍ من فعاليّات مهرجان جرش للثقافة والفنون.. لكن حديثَ السياسة كان حاضرًا في كل من قابلْت.

قالت لي صحفيّة أردنيّة: كنتُ لسنواتٍ أُجري تحقيقات عن حياة "اللاجئين الفلسطنيين" في الأردن، إلى أنْ كانت أزمة "اللاجئين العراقيين".. فصارتْ بعضُ تحقيقاتي عن اللاجئين الفلسطينيين وبعضها عن اللاجئين العراقيين.. وكانت الصَّدمة الثالثة في موجات "اللاجئين السوريين".. ثم كانت موجة اللاجئين الليبيين، واللاجئين اليمنيين. وأصبحت اليوم أسأل نفسي.. يا ترى أىُّ وطن عربيّ آخر سيلحق بموجات الانهيار، ومن أىّ رافدٍ سيأتي "اللاجئون الجُدد"؟!

 

ثمّة شعور عميق بالخوف والفزع.. إنه الشعور بالحِصَار التام.. لا مفرّ!

لقد توارتْ قصائد الشعر الغربي في الربيع العربي.. ولم يعد في نشرات الإعلام الأمريكي والأوروبي.. سوى أنباء الدم وأعداد القتلى.

إن "الشرق الأوسط الأخضر" قد تلاشى لحساب "الشرق الأوسط الأحمر". 

 

يتحدث الغرب عن حرب الثلاثين عامًا القادمة في الشرق الأوسط.. وذلك على غرار حرب الثلاثين عامًا في القرن السابع عشر في أوروبا.. وهى الحرب التي اندلعت داخل المسيحية وقُتِل فيها الملايين، وعمّ معها الفقر والبؤس، وعاش الناس في بلاءٍ عظيم.

إنها حربُ المسيحية ضد المسيحية.. التي مات فيها ثُلثَا السكان في بعض المناطق، ومات ثلث السكان في ألمانيا.

يقول الكاتب الأمريكي "توماس فريدمان": "لقد تسرّعنا عندما قمنا بإجراء مقارنة سهلة بين الربيع العربي وسقوط حائط برلين.. إن المقارنة الصحيحة هى مع حدث أوروبي آخر هو حرب الثلاثين عامًا في القرن السابع عشر.. ذلك الصراع الديني السياسي الذي أدّى في النهاية إلى نظام جديد!

ويمضي الأكاديمي الأمريكي "فرانسيس فوكوياما": "لقد استغرقت الديمقراطية وقتًا طويلاً في أوروبا لكى تترسَّخ.. استغرقت مئة عام أو معظم القرن التاسع عشر. إن أوروبا لم تتحوَّل إلى الديمقراطية مباشرة إلا بعد "الصراعات الدينية".. أى أن أوروبا مرّت بالصراعات الدينية لمدة طويلة قبل أن تكون ديمقراطية"!

ويكمل "يوشكا فيشر" وزير خارجية ألمانيا الأسبق: "إن العالم العربي يشهد ثورات إسلامية وثورات مضادة.. وحين مرّت أوروبا بذلك لم تتمكن من تجاوز هذه الحالة من صراعات الدين والمذهب.. إلَّا بعد قرنين من الزمان"!

 

يواكبُ ذلك الفكر الغربي الإحباطي.. جهودٌ كبيرة من عملاء محليين يساعدون في تمزيق الجغرافيا وتفكيك الدولة.

إن المتطرفين كالمستعمِرين.. كلاهما يسعى إلى التقسيم والتفتيت.. يُحدِّثون أتباعهم عن "الخلافة"، ويتقاتلون فيما بينهم على "الإمارة". 

يزعُمون هدمَ "الدولة" من أجل بناء "الأمّة".. ثم يُغرِقون المسلمين في مستنقع العَدَمْ.. فلا دولة ولا أُمَّة!

إنّها "النانو دولة - Nano-State".. التي يريدها الاستعمار والعملاء.. معًا.

 

 

2 - التطرف الديني.. جُرأة الجهل

 

يُطلِق كل متطرف على نفسه وَصْفَ "الشيْخ"، ويُطلق كل إرهابي على نفسه.. وَصْفَ "القيادي"!

يتصدّر المشهد عددٌ كبير من الجهلاء الذين تحوّلوا.. من "الجناية" إلى "الدعوة" ومن "الجريمة" إلى "الجهاد"!

ومن النادر أن يكون أحدهم حافظًا للقرآن الكريم أو عارفًا بعلمِ الحديث.. أو مطلعًا على علوم الفقه أو أصول الدين. وقد اعتاد الماهرون منهم أن يردِّدوا على مسامع الحضور.. عددًا من أسماء الأوّلين، وعناوين من كتب التابعين.

وحين يتأمل المرء ما يقولون.. يجد أنهم يدورون في الفلك ذاته من الكلمات والعبارات.. وهى في مجملها – إذا ما تم حذف التكرارات – لا تزيد عن مئات الكلمات.. التي يجري إعادة تدويرها في كل خطاب.

إن القراءة الجادة في علوم الإسلام إنما تحتاج إلى أعمارٍ وأعمارٍ.. فكيف يمكن أن يتحصّلها شخصٌ مجرمٌ، لمجرَّد أنه قرر أن يتوب.. إن التوبة لا تعني المعرفة، وإن الثرثرة لا تعني الدعوة، وإن سرقة الميكرفون لا تعني امتلاك الحِكمة.

 

لقد اتَّسمتْ تجاربُ التطرف الديني كلها بفقر الفكر، وضحالة المعرفة.. واتَّسم أعضاؤها جميعًا بالكثير من القول، والقليل من العلم.

يدرِك قادة التطرف.. أنه لا وقتَ للعِلم.. ذلك أن قراءة عشرة كتب كبرى في علوم الدين، قد تستغرق حياة القادة بكاملها.. وهو ما لا يدعُ وقتًا للصراع على الثروة والسلطة.

كما أنهم يدركون أن العِلم لا شعبيَّة له، وأن الجهلَ قادرٌ على اجتذاب الملايين. إنهم يدركون أن المعرفة الرصينة لن تتجاوز أعدادًا قليلة من الناس، أمّا الكلمات الساخنة.. فمن شأنها أن تهزّ القلوب، وتجْمعَ القطيع.

 

يقع كتاب "فتح الباري في شرح صحيح البخاري" لـلإمام "ابن حجر" في (8,391) صفحة.. وحسب قول أحدهم.. فإن قراءة  "فتح الباري" يحتاج إلى (14) يومًا متواصلاً دون رفْع الرأس عن الكتاب.. وبلا طعام أو شراب. وهذا هو الوقت الذي يحتاجه الكتاب للقراءة فحسب.. لكن قليلاً من التأمل والفهم.. يحتاج إلى أضعاف ذلك الوقت. 

وكان الشيخ "عبد الحميد ابن باديس" يشرح موطأ الإمام مالك في الجامع الأخضر.. في مدينة قسنطينة بالجزائر.. وقد استغرق "ابن باديس" في شرح الموطأ على الحضور (18) عامًا!

 

كما أن كتابًا في الفقه مثل كتاب "المُحلّى" للإمام "ابن حزم" يقع في (7,050) صفحة، وفيه عرضٌ لعدد من المسائل الفقهية تصل إلى (2,312) مسألة، تحتوى على رأى (546) من علماء السلف. 

وتصِل "موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة" في طبعتها الثالثة، التي صَدَرَتْ عن دار الفكر في دمشق عام 2012، إلى (13) مجلدًا تشمل (11,754) صفحة.

 

يقع كتاب "البداية والنهاية" لـ"ابن كثير" في (12) مجلدًا تضم (10,128) صفحة، ويقع كتاب "جمع الجوامع" للإمام "السيوطي" طبعة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في (25) مجلدًا.

أمّا "موسوعة التاريخ الإسلامي" لـ"أحمد شلبي" فتقع في (6,544) صفحة.. وتصل "موسوعة التاريخ الإسلامي" للسوري "محمود شاكر" إلى (22) مجلدًا. وتقع "الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية" لـ"فاطمة محجوب" والتي أصدرتها دار الغد العربي في (21) مجلدًا تضم (13,579) صفحة.

 

كان تفسير الطبري للقرآن الكريم "جامع البيان" - حسب بعض المؤرخين - يقع في (30,000) صفحة.. لكن طلابه رأوْا أن هذا الحجم أكبر من احتمال الاستيعاب فجعله في عدد أقل.

أمّا "تفسير الرازي" فيقول المؤرخون أنه ذكرَ عشرة آلاف مسألة في تفسير سورة الفاتحة وحدها. ويقع تفسير "أبو يوسف عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار القزويني" وعنوانه "حدائق ذات بهجة" في مئات المجلدات.

جاء في كتاب "سير أعلام النبلاء" لـ"الذهبي" والذي أصدرته دار الرسالة عام 1996 في (30) مجلدًا.. قول "السمعاني" عن كتاب "حدائق ذات بهجة" لـ"القزويني": أنه يقع في (300) مجلدًا.. وقال "ابن عساكر": سمعت الحسين بن محمد البلخي يقول: "صُنِّف التفسير في ثلاثمائة مجلد ونيف".

وقال "ابن عقيل" في فنونه: جمع أبو يوسف القزويني كتابه "حدائق ذات بهجة في خمسمائة مجلد.. رأيت فيه مجلدًا في آية واحدة.. وذكر "أبو على بن سكرة": ذُكِر لي أن تفسيره ثلاثمائة مجلد منها سبعة مجلدات في سورة الفاتحة وحدها!

يصِل كتاب "خواطري حول القرآن الكريم" للشيخ "محمد متولي الشعراوي"، حسب طبعة مؤسسة أخبار اليوم في القاهرة عام 1991 إلى (24) مجلدًا في (15,449) صفحة.

وفي عام 2009 أصدر "عبد الرحمن بن محمد القماش" كتابه الموسوعي الشامل لعدد من التفاسير وعنوانه "الحاوي في تفسير القرآن الكريم". ويقع "الحاوي" في (840) مجلدًا.. ويضم عددًا من التفاسير المختلفة، ويصل عدد صفحات هذا العمل الموسوعي إلى ثُلثُ المليون صفحة!

ولو أن شخصًا قرَّر أن يقرأ هذا الكتاب في جلسة قراءة منتظمة "يهضم" خلالها (10) صفحات كاملة كل يوم.. فإنه يحتاج إلى قرابة قرنٍ كامل من الزمان.. حتى ينتهي منه!

إن ذِكر ما صدر من مؤلفات في علوم الإسلام يحتاج إلى عددٍ لا متناهي من المجلدات.. ولو أنَّ أحدًا قرّر أن يضع كتابًا عن الكتب التي صدرت في قرن واحدٍ - من أربعة عشر قرنًا من تاريخ الإسلام- لاحتاج إلى عدد كبير من المجلدات.

 

إنَّ حسابات قادة التطرف الديني المعاصرين.. تقوم على أنَّ معركة العلم وميدان المعرفة.. هى معركة مستحيلة، وميدان لا طاقة عليه. فالإخلاص والتجرد، والقراءة والتدبر، والتواضع والتَتَلمُذ.. هى كلها صفات لا وجودَ لها.. ثم إنه لا حاجةَ لها.

بضعُ كلماتٍ على وسائل التواصل.. تكفي لتحقيق الهدف.. وتزيد!

3 - أبو هريرة الأمريكي

 

جاءت خفافيشٌ من دول عديدة لترتَعَ في ظلامِ المشرق العربي.. وكان من بين الظواهر اللافتةِ للانتباه.. هو ذلك العدد الهائل من المقاتلين الأجانب.. إنه منتخب العالم للإرهاب!

واحدٌ من المقاتلين الأمريكيين أصبح حديثَ الإعلام في عام 2014.. ذلك أنه أول أمريكي يقوم بتفجير نفسه وتفجير الآخرين.. في سوريا.

قالت وزارة الخارجية الأمريكية: "إن مواطنًا أمريكيًا من جنوب فلوريدا يبلغ من العمر (22) عامًا قد اشترك في التفجير الانتحاري في سوريا.. وهى المرة الأولى التي يقوم فيها مواطن أمريكي بذلك".

 

عَقِبَ عملية التفجير مباشرة، نَعَتْ "جبهة النصرة" قائد العملية وقالت إنّه "أبو هريرة الأمريكي" ونشرتْ صورةً له وهو يحمل قِطّة مبتسمًا وهو يداعبها.. والأغلب أن حُبّه للقطط هو سبب تسميته "أبو هريرة".

لم تذكر وزارة الخارجية الأمريكية الاسم الأصلي، لكن صحيفة "نيويورك تايمز" قالت إنه أمريكي من أصل عربي اسمه "منير محمد صوالحة".

غير أن المواقع الجهادية قالت نقلاً عن زملائه في "النصرة" إنه كان غير مسلم وقد أسلم حديثًا.. ولم يكن يتحدث العربية.

وقد بثَّت "جبهة النصرة" مقاطع فيديو يظهر فيها "أبو هريرة الأمريكي" مبتسمًا وهو يشارك مع زملائه في وضع عبوات تزن (16) طنًّا في شاحنة.. قام بقيادتها وتفجيرها في "مطعم الفنار" في "إدلب" شمال غرب سوريا.

 

إذا كانت معلومات أعضاء جبهة النصرة عن زميلهم "أبو هريرة الأمريكي" صحيحة.. أىْ أنَّه لم يكن مسلمًا وقد أسلم حديثًا، ثم انضمَّ إلى الجهاد مع "النصرة".. فالأرجح إذن أنَّه كان على دينِ والدته الأمريكية المسيحية "ميشيل".. أو أنه كان بلا دين، ثم اعتنق الإسلام.

لكنَّ صديقًا لأخيه الأكبر يدعى "أورلاند تيلور" كذّب المصادر الجهادية وقال للصحف: إن "أبو هريرة" كان مسلمًا يقرأ القرآن ويذهب إلى المسجد بانتظام، وكان يشارك في الاحتفالات الدينية مثل "مهرجان الصوم".

وامتدح "تيلور" الشاب "أبو هريرة" وقال: "لم ألحظْ أىَّ شئ مريب عليْه، ولم أسمع منه أى وجهات نظرٍ متطرفة أو إرهابية.. كان شخصًا عاديًا، وكان من أفضل من عرِفت وأكثرهم احترامًا".

 

لقد تأملتُ كثيرًا قصة "أبو هريرة الأمريكي".. ذلك الشاب الذي تكسو الطيبة ملامحه، ويعيش مع عائلته في منزل وَسَطَ حدائق البرتقال على أطراف "فيرو بيتش" جنوب فلوريدا.. وتُظْهِر نظرته إلى قطةٍ يحملُها.. نظرةَ إنسانٍ يمتلئُ بالإنسانيةِ والبراءة.

كيف أنهى هذا الشاب (22) ربيعًا من حياته وسط (16) طن من المتفجرات.. لتدمير مطعمٍ يقدم الخضروات والدجاج؟!

إذا كان "أبو هريرة الأمريكي" مسيحيًا مثل والدته ثم أسلم.. كيف انتقل بهذه السرعة من "المسيحية" إلى "القاعدة"؟

وإذا كان "أبو هريرة" مسلمًا مثل والده.. فكيف تحوَّل ذلك الشاب المعتدل الذي وصفه أحد أصدقاء العائلة بأنه "أفضل من عرفتُ وأكثرهم احترامًا" إلى شخص يضعُ أطنانًا من الموتِ في شاحنة تدخُلُ في مطعمٍ.. لا يعرِفُ من يَقتُل ولا من يُصيبْ؟

 

يحتاج علم النفس أن يتوقف طويلاً أمام ذلك التحوّل السريع من "الوسطية" إلى "التطرف".. إنّ بعض المتطرفين غادروا وضع الاعتدال في "لا زمن". 

إن مقالاً، أو برنامجًا، أو تعليقًا على "فيسبوك".. يفعَل ذلك. إن شخصًا واحدًا.. كفيلٌ بتدوير عقولِ الكثيرين، والعَبَث فيها.. دونَ مشقّة أو جهد.

 

روتْ لي مصريةٌ مسلمةٌ تدرس العلوم السياسية في الولايات المتحدة أنها ارتبطت عاطفيًا بشاب ألماني.. وطلبت منه اعتناق الإسلام من أجل الزواج.. ولم يمانع الشاب في ذلك، لكنه طَلبَ كُتُبًا عن الإسلام ليعرف إذا كان يريدُ ذلك أم لا.

أعطتْ المسلمة للشاب الألماني كتبًا عن الإسلام.. وبعد أسابيع اقتنع وأسلم. ومضت الأمور بين المسلمة و"المسلم الجديد" على نحو جيد استعدادًا للزواج.. لكنَّها سرعان ما فوجئت به وقد أصبح واحدًا من متردِّدِى المواقع الجهادية.. وقرّاء الفكر المتطرف.

وسرعان ما اعتنق "السلفية الجهادية".. ثم واصل فكر التكّفير.. وأصبح يَرَى خطيبتَه إنسانة غير صالحة، ثمّ بات يراها "غير مسلمة" وأنها تعيش في "الجاهلية"، ثم كانت قمة الدراما الفكرية في أنْ قام "المسلم الجديد" بدعوة خطيبته "المسلمة القديمة"، والتي اعتبرها مسلمةً سابقةً.. إلى اعتناق الإسلام.. من جديد!                                

 

لقد نَجَحَ "إعلام الكراهية" في أن ينصُر جانب التطرف على جانب الاعتدال.. وأن يصنع صورة "الثورية" و"البطولة" لدوائر الإرهاب، وأن يعطي صورة "البلادة" و"التبعية" لدوائر الاعتدال.

تمّتْ الإساءة إلى شيوخ الدعوة، وتمّتْ الدعاية لشيوخ الفتنة.. امتلأت "شبكة المعلومات الدولية" بكل ما هو قوى ومؤثر لصالح التطرف، وكل ما هو ركيك وباهت لصالح الوسطيّة.

غَطّت "القذائف" على "المساجد"، و"المدافع" على "المآذن".. وانتصرت "السياسة" على "الحضارة". لكن هذه ليست نقطة نهاية الجملة. إنّ ظهور الباطل لا يعني زوال الحقّ، وخسارة المعركة لا تعني نهاية الحرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4 - العصور الوسطى المجيدة.. الإسلام والعلم

 

إذا كان التاريخ السياسي للإسلام والمسلمين قد واجه الكثير من أسباب الصراع والصدام. فإن التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ظل سيّدًا وقائدًا لمئات السنين.

لم تنشأ الحضارة الإسلامية في الفراغ، بل إنها كانت حقبة حضارية استفادتْ مما قبلها وأفادتْ ما بعدها. أخذ المسلمون من الحضارات السابقة: اليونانية والفارسية والهندية والصينية والمصرية، ثم إنهم كانوا أساس نهضة الحضارة الغربية الحديثة، بعدما دخلت الحضارة الإسلامية حقبة الكساد العظيم ثم الانهيار الكبير.

 

تحدّث "برنارد لويس" ثم  "صمويل هنتنجتون" عن "صراع الحضارات"، وتحدّث "أمين معلوف" عن "غرق الحضارات". وتحدث آخرون عن نهاية الحضارة وسطوة العولمة، وتأسيس عالم جديد يقوم على الأرقام ولا يقوم على الأمجاد، وينهض على الحالة الاقتصادية.. ولا ينهض على السيرة التاريخية.

 

في تقديري فإنَّ ذلك التحليل بشأن "خروج التاريخ" من ركائز القوة في العالم المعاصر.. هو تحليل غير دقيق. بل إن تسارع الحاضر، وهرولة المضارع.. إنمّا يدفع - بموجب معطيات علم النفس على الأقل - إلى استمرار الحفاوة بما سبق، والرغبة في استعادة ما فات. 

 

وإذْ يكتفي بسطاء التفكير بالثرثرة بشأن المجد الغابر، والسلف الماجد، والزهو بما لم يفعل وما لم يصنع.. فإن النُّخبة المسلمة على امتداد العالم ترى فيما سبق دافعًا للطموح، وصانعًا للأمل.. فيما يشبه التزوّد بالوقود أثناء الإعداد للانطلاق والصعود.

 

إن الحضارة الإسلامية لم تعد ماضيًا عدميًّا، أو جزءًا ممّا كان ولن يعود.. بل هى ذلك المحرك التاريخي الذي لا يعطب، والذي بمقدوره أنْ يعمل من جديد.. مرمِّمًا ما تصدّع، وبانيًا ما تهدّم.. متجاوزًا ما طرأ، وواصلًا ما انقطع.

 

كانت الحضارة الإسلامية حضارة مدنيّة جامعة، قامت في مسيرتها على مشاركة العرب وغير العرب، المسلمين وغير المسلمين. وبينما قدَّم العرب نماذج مثل الحسن ابن الهيثم، وجابر بن حيان، والزهراوي، والكِندي، والجاحظ، وابن خلدون، وابن رشد، وابن طفيل، والإدريسي.. كما قدموا أئمة الفقه الكبار مثل مالك، والشافعي، وابن حنبل، وابن حزم.. فإن غير العرب قدموا نماذج كبرى مثل الفارابي، وابن سينا، والرازي، وعباس بن فرناس، وسيبويه، وابن المقفع.. كما قدموا أئمة الفقه الكبار مثل أبو حنيفة، كما قدموا أئمة الحديث مثل البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه.

 

لقد شارك المسيحيون واليهود في مسيرة الحضارة الإسلامية، ولقد اشتهر كثيرون من قبيلة تغلب المسيحية، وكان من بينهم الشاعر الأخطل. كما أن الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون صاحب كتاب "دلائل الحائرين" يعتبره المؤرخون جزءًا من البيئة الحضارية الإسلامية. ولقد أسهم عدد كبير من الأطباء والمهندسين والصيارفة غير المسلمين في مؤسسات الدولة أثناء ذلك العصر الذهبي، وتولى بعضهم مناصب الولاة والوزراء.

 

على صعيد الصراع.. التقى المسلمون والمسيحيون في أربع محطات تاريخية كبرى: في الحروب الصليبية حتى استرداد القدس، وفي الحروب العثمانية - الأوروبية والتي تضمنت فتح القسطنطينية عام 1453، وحصار فيينا عام 1529.

 

كما التقى الطرفان لمدة ثمانمائة عام في حقبة الأندلس، ثم التقوا أخيرًا في عصر الاستعمار الأوروبي للعالم الإسلامي. ولقد حدث في تلك الحقب الواسعة وفي تلك الجغرافيا الشاسعة.. تأثيرٌ متبادل، ليُضاف عصر الحروب إلى عصور الترجمة والتجارة.. في تاريخ العلاقات بين الديانتين الأكبر في التاريخ. 

في منتصف القرن العشرين ذاعَ مصطلح "الحضارة اليهودية - المسيحية" كمرادف للحضارة الغربية، وذلك اعتذارًا عمّا حدث لليهود  من مظالم كبرى في الحقبة النازيّة، واستنادًا إلى الجذور التوراتية المشتركة. وقد ذهب البعض إلى أن المشتركات الإسلامية المسيحية أكبر من المشتركات المسيحية اليهودية، وإلى أن إسهام المسلمين في الحضارة المسيحية الغربية أكبر من الإسهام اليهودي فيها.

 

وفي عام 2004 طرح المؤرخ الأمريكي "ريتشارد بوليت" أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا مصطلحًا رآه الأكثر مصداقية، وهو: "الحضارة الإسلامية - المسيحية". أخذَ الأوروبيون من المسلمين علوم الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، كما عرفوا منهم الصناعة وأساليب الحياة.

 

لقد كان مثلث "بغداد - القاهرة - قرطبة" هو مثلث الحضارة التي تجاوزت أحلام أوروبا، بل وتجاوزت خيالاتها. كانت بغداد هى عاصمة العالم لعدة قرون، وكانت جامعة الأزهر أولَّ جامعة في التاريخ تمنح شهادات معتمدة للتعليم، وكذلك شهادات معتمدة للدراسات العليا.

 

ولقد أخذت جامعات أوروبا من الجامعات الكبرى في العالم الإسلامي.. من "بيت الحكمة" في بغداد إلى "جامعة الأزهر" في القاهرة، و"جامعة الزيتونة" في تونس، وصولًا إلى "جامعة القرويين" في فاس.

 

لقد سبقت المؤسسة الأكاديمية المرموقة "بيت الحكمة" في بغداد أولى جامعات أوروبا بثلاثة قرون. وقد أخذت جامعات أوروبا من جامعات العالم الإسلامي المناهج وكذلك الإطار الشكلي والتنظيمي.. من المدن الجامعية المخصّصة للغرباء.. إلى منح الشهادات.

 

كانت جامعة الأزهر تقدم رواتب للطلاب، كما تقدِّم نظام "المنح الكاملة". وكانت المدينة الجامعية تسمى "المجاورون" وذلك لسكن الطلاب الغرباء بجوار الجامعة.

 

أخذ البريطانيون من المسلمين فكرة المستشفيات، التي نقلوها بعد تجربة الحروب الصليبية، ولم تعرف أوروبا من قبل فكرة إنشاء مبنى مستقل كمستشفى. وقد سبقَ مستشفى دمشق في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك.. أول مستشفى أوروبي في بريطانيا بأكثر من  ستمائة عام. وفي مصر كان  مستشفى أحمد بن طولون بالقاهرة أول مستشفى في التاريخ يعمل بالمعايير المعاصرة، من حيث الزيّ الخاص للمرضى، والإقامة في غرف مستقلة، وتقديم الطعام والشراب، ووجود صيدلية تابعة للمستشفى لتقديم الدواء، ووضع كل البيانات داخل المستشفى في سجلات مكتوبة.. تتضمن طواقم الأطباء، وقوائم المرضى.

 

كان ذلك مرتبطًا بالتطور المعرفي في العالم الإسلامي بشأن النظافة والبيئة. فلقد اخترع العرب "الصابون" وكان ذلك ضمن نجاحهم الكبير في تطوير علم الكيمياء، ونقله من مستوى السِّحر إلى مستوى العِلم.

 

وقد أخذت أوروبا صناعة الصابون من الأندلس. كما أخذوا منها فكرة "الحمامات" التي لم تكن معروفة في أوروبا.

 

ثم إن أوروبا أخذت من الأندلس فكرة صناديق القمامة، حيث شهدت مدينة قرطبة التي كانت أجمل مدن العالم وأكثر تقدمًا لفترة طويلة - وضع العديد من صناديق القمامة في الشوارع.

 

كما أخذت منها فكرة إقامة منشآت جمع القمامة والتخلص منها. 

 

وعلى المستوى الفكري.. توجد كتابات للكِندي وفخر الدين الرازي وابن النفيس.. تتحدّث عن مخاطر التلوث، ومضار النفايات الصلبة.

 

لقد نجحَ "الكيميائيون المسلمون" في تطوير صناعات الزجاج والأصباغ، وأنشأوا مصانع للزجاج الملوّن، وتقطير العطور. وتشرح بعض وثائق القرن الثاني عشر الميلادي طريقة صناعة الصابون، ثم إن "الكيميائيين المسلمين" قد نجحوا في تجاوز اليونانيين في تصنيف العناصر الكيميائية.

 

وضع "الرازي" تصنيفًا للعناصر الكيميائية يعتمد على خواصّ العناصر، وقام بتصنيف العناصر على النحو الذي يوجد في الجدول الدوري الحديث.

 

ويعود تأسيس علم الكيمياء إلى العالم المسلم "جابر بن حيان". 

 

بدورهم نجح "الفيزيائيون المسلمون" في تطوير علوم الضوء والفضاء، وفي القرن العاشر الميلادي كان أكبر علماء الفيزياء في العالم هو الحسن بن الهيثم، الذي أنتج بعضَ أعماله أثناء إقامته في إحدى غرف الجامع الأزهر، ولايزال كتابه "المناظر" واحدًا من أقوى الأطروحات العلمية على مرِّ التاريخ.

 

لقد وصلَ "الرياضيون المسلمون" بقيادة "الخوارزمي" إلى مدًى غير مسبوق، وقد تطورت بالتوازي علوم الهندسة والجغرافيا. وقد تجلّى ذلك في المساجد والقصور، وفي القباب والمآذن، وهى كلها تختلف - إبداعيًا - عن تاريخ العمارة السابق عليها. كما تجلّى نجاح "البيروني" في تحديد محيط الأرض على نحو دقيق، ولا يختلف عمّا يعرفه العلم الآن سوى بمائتي ميل فقط، وكان ذلك  قبل ألف عام.

 

إن الخريطة التي جرى رسمها في العالم الإسلامي في أوائل القرن التاسع تشمل آسيا حتى اليابان، وتشمل إفريقيا وأوروبا.. وهى دقيقة على نحوٍ غير مسبوق. كما أن المسلمين في الأمصار المختلفة كان بإمكانهم تحديد القبلة، ومعرفة الاتجاه إلى مكة  المكرمة.

 

وقد تمكن "الفلكيون المسلمون" الذين أقاموا مراصدَ متقدمة، من تحديد ميل خسوف القمر، ووضع جداول لحركة الكواكب، وفي "مرصد تدمر" السوري، وضع العلماء رسومًا للأرض، وأثبتوا دورانها. ومن المدهش أن فخر الدين الرازي قد طرح في كتابه "التفسير الكبير" فكرة وجود عدة عوالم، أو عدة أكوان، وليس عالمًا أو كونًا واحدًا كما كان يعتقد فلاسفة اليونان. ولقد استند الرازي إلى علم المنطق في القول بتعدد الأكوان.. وهى النظرية التي لاقت رواجًا في العقود الأخيرة.

 

لقد تطورت الآداب والفنون بالتوازي. وفي قرطبة تأسس أول معهد للموسيقى في العالم باسم  "دار المدنيات". وقد طوَّر "الفنانون المسلمون" استخدام آلات القانون والكمان والعود. واشتهرت هذه الآلات في الموسيقى الأندلسية. وحسب مؤرخي الموسيقى، فقد ذاع صيت موسيقيين كبار مثل زرياب والأصفهاني واسحق الموصلي.

 

إن ما يوجز رقىّ ذلك العصر الذهبي، وما كان عليه.. هو أنَّه كان بامتياز "عصر المكتبات"، حيث كان للكتاب والمؤلف والمترجم مكانة كبيرة، وكانت مهنة النسْخ والتوزيع مهنة ثريّة وذائعة.

 

ويذكر المؤرخون أن سوق الكتب كان رائجًا، وكانت مبيعات الكتب في بغداد أو القاهرة أو قرطبة مرتفعة بشكل كبير.

 

وكانت القوافل التجارية تنقل الكتب من القاهرة أو وبغداد إلى الأندلس في شهر واحد. وبينما كانت مكتبة قرطبة العامة تحوي نصف المليون كتاب، كانت مكتبة القاهرة العامة تحوي (2) مليون كتاب.

 

لم يقف الإسلام مانعًا أو محايدًا إزاء تلك النهضة العلمية الكبرى، بل كان الدين الإسلامي دافعًا وحاميًا. وكانت النخبة الفكرية مؤمنة بأن الإسلام والعلم إنما يمثلان مشروعًا واحدًا لبناء الإنسان والمكان.

 

ولقد كان ذلك نقيض ما جاءت به حركات الإسلام السياسي، التي حبست عقولها في أشباه النصوص، وانفصلت بروحها عن طبائع العصر ومتطلبات الحياة، فراحت تعمل ضدّ الدين والدنيا، محاولة منع الحركة ووقف الخُطى.

كانت تلك هى المعادلة باستمرار.

 

وفي كل مرة انتصرت فيها مدرسة العلم والبحث والتحديث، كانت الحضارة حاضرة. وفي كل مرة غلبَ فيها المتطرفون اللاعقليون.. غابتْ الأمة وانطفأتْ روحها.

 

إنها لاتزال المعركة ذاتها، ولايزال الفريقان بعينهما، إمّا الإسلام والحداثة معًا، وإمّا التطرف والتخلف معًا. إنّ الصراع بين المنظومتين هو ما يحدّد المستقبل.. إمّا عودة التاريخ، وإمّا الخروج من التاريخ.

رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية والمستشار السابق للرئيس المصري

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز