البطل هو الإنسان المصري
عشت فى الجبهة وسط «حقل» من الأبطال.. مئات الألوف.. لا أعرف العدد ولا يهمنى أن أعرفه.. كلهم مزروعون فى طين مصر ورمالها.. بجذور عريقة تمتد إلى خمسة آلاف عام.. كلهم أبناء العمال والفلاحين وكل مصري.. كلهم أبطال.. ليس فيهم واحد إلا وهو بطل.. وهم يفرزون البطولة حينما حلوا.. يصيبون كل من يشاركهم معركتهم.. أو يراهم.. أو يتحدث معهم بعدوى هذه البطولة. البطل فى جبهة القتال.. هو سليل نفس الفلاح الذي مات وهو يحفر القناة الظافرة.. ومع ذلك فهم كلهم صنعوا المعجزة.. الخارقة.. بل هم يصنعون الخوارق كل يوم.. ويبهرون العالم كله.. ماذا يقول الكاتب وهو يعيش فى الجبهة.. بين حقول الأبطال هذه.. وغابات الصلب.. صلب البشر جنبا إلى جنب صلب الدبابة والمدفع؟ تحطمت أسطورة العدو الإسرائيلى! أصبح ذلك أمرا مفروغا منه حتى أصبحت الأسطورة فى زوايا النسيان ولم يعد أحد يذكرها. هل نقول إن أسطورة التكنولوجيا والتفوق الإلكترونى الذي توهم البعض وأوهموا بعضنا بما يفهم أنه قادر على إلغاء إراء شعب؟! لقد ركزت فى أحاديثى مع الجنود والضباط على تلك الحكاية.. فاكتشفت أننا نحن فى المدينة فقط وعلى مقاهيها.. كنا نتشدق ونتمشدق بكلمات ضخمة كثيرة عن التكنولوجيا والإلكترونيات الساحقة الماحقة للإنسان. بينما الجنود والضباط لا يهتمون بشىء من ذلك.. ولا يتحدثون عنه.. لأن إرادتهم وحماسهم فوق كل شىء.. لأنهم يؤمنون أن الإنسان هو الجوهر.. هو الأغلى.. هو الأهم.. الإنسان هو السلاح وصانع السلاح. ولذلك ارتعد الجندى الإسرائيلى عندما هاجمه الجنود المصريون.. وهم يهتفون أمامه الله أكبر.. ويصبون عليه وابلا من الرصاص فيرفع يديه إلى أعلا صائحا: مسلم يا مصري. لم تنفعه تكنولوجيا.. ولا إلكترونيات.. لأنه يواجه إرادة بشرية تذيب الصلب. فى كل موقع مررت به.. كان الجنود يعرضون لنا ما انتزعوه من أجهزة إلكترونية من دبابات أو مدافع أو دشم للعدو.. ويقولون: - الحريقة اللى فى قلبى من 1967 تحرق كل تكنولوجيا. لقد اختزن جنودنا لست سنوات شعورهم بالرغبة فى الثأثر وتحرير الأرض.. وكانوا ينفسون عن رغبتهم هذه بإجادة التمرين والتدريب.. حتى يمكن القول إن مستواهم أصبح من أحسن المستويات العالمية من حيث التدريب. لقد استمعت كثيرا إلى وصف لمعارك الدبابات. كيف دمرنا اللواء المدرع 190.. عن آخره وأسرنا قائده.. كيف دمرنا أكثر من مائة دبابة فى اليوم الرابع للقتال.
نحن فى ميدان القتال.. دبابة إزاء دبابة، والدبابة التي تواجه الدبابة المصرية.. دبابة أمريكية حديثة الصنع.. بل أحدث دبابة فى العالم.. طراز باتون. بعد أن تدوى المدافع.. ويصطدم الحديد بالحديد فى أصوات مخيفة مروعة.. وبعد أن ينجلى دخان المعركة. إذ بعشرات الدبابات الأمريكية ممزقة.. ومشتعلة.. وجنودها الإسرائيليون رافعون أيديهم فوق رءوسهم معلنين الاستسلام. بينما على الجانب الآخر، خسائرنا بضع دبابات فقط.. بينما خسر العدو عشرات. بل فى إحدى المعارك فر الإسرائيليون تاركين عشرات من الدبابات الجديدة المشحمة حديثًا! لماذا؟ السر يكمن فى الإنسان.. الإنسان الذي يقود الدبابة المصرية.. وهو البطل.. وهو الأسطورة اليوم حقا.
أما الإنسان الذي يقود الدبابة الإسرائيلية فقد تحطمت أسطورته عندما فتح عينيه فجأة على الوحوش المصريين يزأرون على الشاطئ أو وسط دشمه الحصينة.. الله أكبر. فانهار فى أعماقه بناء شامخ من الأوهام والأكاذيب وأحلام المنى.. لقنه له سادته الصهاينة سنوات طوالا. والبطل العادى.. الذي اخترق خط بارليف.. ومشى فيه كما تمشى السكين فى الزبد.. أى نوع من الأبطال هذا؟! ولم يحدث فى حياتى أن رأيت حصونا أو خطوطا كخط ماجينو أو سيفريد إلا فى السينما أو القراءات.
ولكنى رأيت ذلك فى القنال. إن خط بارليف ليس السد الترابى ذا العشرين مترا ارتفاعا.. إنما هو مجموعة من القلاع الحصينة.. انتشرت على طول الشاطئ الشرقى. تصور عمارة الإيموبيليا الضخمة.. وقد بنى معظمها تحت الأرض.. ثم اعتلاها تل من الرمال والأحجار.. يمكنك أن تتصور معنى الموقع الحصين فى خط بارليف. هذا الموقع.. المزود بدهاليز وممرات كلها محصنة.. طبعا.. فى داخله مدافع من جميع الأشكال تتحرك على قضبان وبأجهزة إلكترونية وداخل مصاعد.. وفيه مطالع ومنازل للدبابات تطفو لتضرب.. ثم تختفى.. تحت الأرض.
وهذا العالم السفلى مضاء بالكهرباء ومكيف الهواء.. وملىء بالثلاجات والمرطبات حتى الكوكاكولا.. وجميع أنواع الأطعمة المستوردة وغير المستوردة. كما أنه مزود بجهاز سينما للترفيه عن المقيمين فيه. الموقع إذن مدينة سفلية مستقلة، ومحصنة تماما.. كيف سقطت جميعها فى ساعات؟ يحكى لك الجنود والضباط الحكاية.. ببساطة وتواضع شديدين.. وعندما يقول الفريق سعد الشاذلى.. إنه بعد التحرير سنستدعى الأكاديميين العسكريين لدراسة معجزة الاستيلاء على خط بارليف وفى ساعات وسليم تقريبا.. فإنه لا يتجاوز الحقيقة فالأمر معجزة حقا. وهى معجز الإنسان المصري. ومعجزة القيادة المصرية التي وضعت خططا عسكرية دقيقة لا تقل بحال عن مستوى أعظم الخطط العسكرية المشهورة فى تاريخ الحروب ويوما ما سيكتب عن العبقرية القيادية، المصرية كبار الكتاب العسكريين. وأنا أكتب ما أكتب الآن.. دون خوف من الاتهام بالمبالغة.. فما يجرى فى الجبهة لا يمكن وصفه قط..
لا بالقلم ولا بالصورة.. فهو شىء يفوق الخيال والتقدير. هل يمكن أن تتصور أننا نذيع عن خسائر العدو الإسرائيلى أقل مما هو حاصل فعلا؟ هل حدث هذا فى تاريخ أى حرب من قبل؟ إن العادة أن الدول المتحاربة تبالغ فى خسائر أعدائها.. ولكن ما يحدث الآن شىء لا «يصدقه عقل».. وهم لديهم فى القيادة تفسير لهذا التواضع. راجع البلاغ العسكرى عن تحرير أول مدينة فى سيناء.. القنطرة شرق.. لقد عشت يوما كاملا فى القنطرة شرق مع رئيس مدينتها المقاتل طاهر الأسمر. دبابات العدو وسياراته المصفحة محطمة، ومحترقة.. بالعشرات فى شوارع المدينة وعلی أطرافها. إن العدد الذي قرأته فی البلاغ العسكرى عن خسائر العدو.. لا يساوى ثلثى الخسائر الحقيقية التي رأيناها بأعيننا.. وعددناها بأصابعنا. وفى القنطرة لا يكاد المرء يصدق أنه فى مدينة محررة منذ أيام قليلة.. وأن القتال مع العدو يدور على بعد عشرين كيلومترا من أطرافها.. فالجنود والمدنيون المقيمون فيها يعيشون حياة عادية.. وأعصابهم هادئة بشكل مثير.
والهدوء والثبات الذي يملأ نفس المقاتلين المصريين فى الجبهة هو الشىء المثير للإعجاب حقا. إنك تفقد إحساسك بأنك فى ميدان قتال.. إزاء هذا الثبات والهدوء. إنهم جيش الواثقين فعلا. لا تحس أنك فى المعركة إلا عندما تسمع طلقات المدافع وصلصلة جنازير الدبابات وهى أحلى الأصوات هناك.. دباباتنا ومدافعنا.. وعرباتنا تتحرك وتعمل فى الضفة الشرقية لتحرير الأرض المحتلة.
ليس هناك جندى واحد أو ضابط واحد.. يزهو بما فعل رغم أن كل واحد قد صنع الأعاجيب. إن الثقة بالنفس قد استردت .. ثم هى ثقة راسخة تقوم على رواسخ حضارية عريقة.. لذلك فهى ليست مغرورة ولا هوجاء. ومئات من أسماء المقاتلين الأبطال سجلناها للأبطال الذين سرنا معهم.. وركبنا دباباتهم وسياراتهم وامتطينا «صهوات» مدافعهم بعد أن زال الخوف من نفوسنا رغم أننا وسط الميدان.. وفرقعة المدافع تدوى وأصوات اصطدام الفولاذ بالفولاذ تتردد فى جنبات الصحراء.. ولكن من يشعر بالخوف وهو وسط هذا الفيض البشرى من الشجاعة والحماس؟ وحملونا جميعا رسالة واحدة.. تكررت بألفاظ مختلفة لا أكثر ولا أقل: طمئنوا أهلنا.. نحن سنأتى لهم بالنصر! وكان طبيعيا أن نبحث فى الجبهة عن خسائرنا .. خسائر قواتنا المسلحة.. ولن تجد أحدا فى جيش الواثقين يخفى عنك شيئًا. إن من استمعوا إلى البلاغات الإسرائيلية لاشك قد سمعوا تلك البلاغات عن تحطيم الجسور التي أقامها الجيش المصري لعبور القنال.
كل هذا كذب.. إن المعابر المصرية على قناة السويس.. «زى الرز» كما يقولون.. لماذا؟ لأنه حتى أسطورة السلاح الجوى الإسرائيلى قد اهتزت.. إن الإسرائيليين يقومون بغارات جوية على قواتنا.. ولكن إليك صورة ما يحدث كما رأيناها رؤية العين. على الفور تشرع المدافع إلى السماء.. المدافع المضادة.. ومدافع الدبابات.. ويهرع المشاة إلى حفر.. مصوبين بنادقهم أو رشاشاتهم إلى السماء.
وفى ثوان تتحول السماء إلى جحيم.. لابد أن تحترق أى طائرة مغيرة. وهى إذا ما أفلتت منه فعلى الأرجح لن تفلت من جحيم صواريخ سام بأنواعها المختلفة! من هنا، فإن قواتنا تعبر فى أمان.. وإذا ما حاول العدو الاعتداء عليها.. تحولت إلى قوات مقاتلة شرسة.. تسقط طائراته بين هتاف الجنود.. الله أكبر.
الله على المعتدى! وهو هتاف يشترك فى ترديده الجنود المسلمون والأقباط معا.. إنه تعبير عن إرادة مصر.. وشعب مصر المنتصرة على العدو. خسائرنا قليلة.. وخسائر العبور أقل إلى درجة مذهلة! إن ما حدث يفوق الوصف.. لا أدرى لماذا كنت أذيع سرا عسكريا أن خسائر العبور لم تزد على مئات قليلة من الشهداء الأبطال.
ومع ذلك فإن أحدا فى الجبهة لا يتحدث عن الخسائر ولا يهمه الخسائر.. ولو كانت خسارة حياته هو. إنهم يقولون جميعا.. لابد من التضحية بكل شىء من أجل التحرير.. وهم لا يفكرون فى استئناف حياة عادية قبل إنجاز هذه المهمة.. بل إن الواحد منهم يحزن.. إذا ما أصيب إصابة خفيفة تمنعه من القتال.. وقد رأيت بعينى وسمعت جنودا جرحى يبكون ويطالبون ببقائهم فى الميدان ليواصلوا الحرب.. رغم إصاباتهم! وهؤلاء الأبطال ليسوا محترفى حرب.. إنهم أبطال واعون.. إنهم يعرفون لماذا يقاتلون.. ويعرفون العدو الذي نقاتله. وفى الجبهة.. كنا نتحدث.. ونسأل.. ونناقش.. فيذهلنى ارتفاع مستوى الوعى بين الجنود. أيضا الشىء المؤكد.. أنه مهما حشدت إسرائىل من جيوش ومن سلاح طيران.. وإلخ، فلن يوقف ذلك الجيش المصري عن تحرير سيناء والأرض المحتلة.. لن تستطيع قوة بعد اليوم أن تهزم مصر.. وجيش مصر.
لم تعد هناك أساطير.. وسقطت كل الأقنعة عن التكنولوجيا والإلكترون.. وتحول خط بارليف بقدرة قادر إلى حاجز من الجبن ذى الثقوب.. على حد تعبير الأسطورة العسكرية المزيفة موشى ديان. وسقط كل هذا.. إزاء شىء واحد.. الإنسان المصري.. المقاتل المناضل من أجل قضية عادلة. والقيادة المصرية السياسية والعسكرية.. والتي تقود المعركة الآن بذكاء فريد وبساطة مثيرة.. أذهلت العالم كله.
المراسل العسكرى لصباح الخير
عدد صباح الخير 927 أكتوبر 1973



