السادات فلاحًا
في الشمس الجهنم دي.. ستة صاغ يعملوا إيه؟ خرج من جبانة القرية بعد زيارة قبر والده.. وفي طريقه إلي البيت توقف أمام حقل القمح لحظة.. ثم عرج عليه ومشي فيه مترين أو ثلاثة واقتطف سنبلة وفركها.. ونفخ «الفراكة». والتفت إلى من حوله مبتسما وقال: - الحمد لله يا أولاد.. القمح «رامي» كويس السنة دي. > كلهم كلموه: الرجل السعيد بمحصول القمح.. هو أنور السادات.. والقرية هي قرية ميت أبوالكوم. وهكذا يعيش السادات في قريته بين أهله وعشيرته.. فلاحا بسيطا أصيلا.. عريقا في الأصالة. وهذا الارتباط بالقرية ليس ابن اليوم صحيح أن الكثير من الحكام إن لم يكن كلهم بل أيضا الكثير من الميسورين ورجال الأعمال.. لكل منهم «بيت عريض» يستجم فيه من عناء العمل. ولكن القرية ليست بالنسبة لأنور السادات هذا المنتجع.. ليست مصيفا وليست مني.. ولا مكانا سياحيا يعيش فيه لحظات سطحية. إنه مشدود إلى ميت أبوالكوم منذ الصغر.. في وقت جرت فيه العادة علي أن يشد المتعلمون منا رحالهم من قراهم ولا يزورونها إلا في المواسم كالسياح. أما أنور السادات فإن ميت أبوالكوم تمثل بالنسبة له مقرا يعيش فيه ويحكم منه أيضا مثلها مثل بيته في الجيزة أو استراحة المعمورة. وهذا التعلق بالقرية قديم.. حكى لي عنه الكبار فيها ونحن جلوس في ظل شجرة «دقن الباشا» الوارفة الظلال أمام بيت العمدة محمد ماضي. إجازة الصيف وهو في المدرسة الثانوية بالقاهرة كان يقضيها في القرية علاوة على إجازات الأعياد. وعندما كان طالبا في الكلية الحربية كان يقضي في القرية معظم عطلات الخميس والجمعة بعكس زملائه من طلباتها الذين يفضلون قضاء تلك العطلات في القاهرة. وعندما تخرج ضابطا كان يتردد على القرية باستمرار.. حتى عندما كان مطاردا بسبب نشاطه الثوري كان يتسلل إلى القرية تحت جنح الظلام ليقضي وقتا مختلفا بين أهله. وفي السنوات المزدحمة الأولى للثورة كان يجد وقتا للتردد عليها.. وعندما كان وكيلا لمجلس الأمة فرئيسا له. فنائبا لرئيس الجمهورية.. كان يعيش أياما طويلة في ميت أبوالكوم. وليس صدفة أن حرم الرئيس السيدة جيهان السادات مارست نشاطها الاجتماعي في مركز تلا التابع له قرية ميت أبوالكوم.. بينما العادة أن زوجات الكبار في القاهرة يمارسن النشاط في القاهرة. ومن هنا فإنك حيث تجولت في قرى مركز تلا.. كفر عسكر.. وطلبوها.. وفي البتانون وغيرها.. سنجد أنور السادات معروفاً في «الناحية» على المستوى الشخصي والمستوى العام فقط. فكلهم يعرفونه.. وجلسوا إليه.. وتحدثوا معه.. واستمعوا إليه. ولذلك ما من فلاح في الناحية إلا وفي جعبته الكثير من الحكايات التي تعتبر «نوادر» بالنسبة لرئيس الجمهورية. في بلد ضربت البيروقراطية فيه منذ آلاف السنين شعارا كثيفا بين الحاكم والمحكوم وغرس العثمانيون فيها تقاليد مروعة لتعالي السلطة من «الفلاحين» بحيث إن مجرد مخاطبة الوالي أو حتى المأمور لفلاح ولو من طرف أنفه.. يعتبر قمة في التواضع والديمقراطية. وإنها لظاهرة محيرة حقا هذا الارتباط العميق بين السادات والقرية، خصوصا بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية.. فكما قلنا أن ميت أبوالكوم بالنسبة له لا تعني مجرد بيت يستريح فيه من عناء العمل. بل قرية ويعيش فيها من أهلها.. ويخالط فلاحيها.. ويتابع مشاكلهم، وأحوالهم. > عندما يصل الرئيس: في يوم من الأيام قال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر عن أنور السادات أنه «استخدم سجاياه» الطبيعية في جميع أدوار حياته كما أحسن استخدامها.. في خدمة القضية الوطنية.. فنجده قد سجن في شهر نوفمبر 1942 بأمر العدو المستعمر ثم أعيد اعتقاله عام 1946 لنشاطه الوطني. لكم تحمل من ألوان الحرمان والتعذيب فلم تهن عزيمته ولم يفت ذلك في عضده بل ازداد رسوخا وإيماناً. هذه «السجايا» التي تحدث جمال عبدالناصر عنها هي سجايا الفلاح العمل البساطة.. الأصالة.. الود.. الصلابة.. الكرم.. والدهاء أيضا.. وصفات أي حاكم أو مسؤول.. ليست مسألة ذاتية لا تدخل في تحديد ورسم سياسته، إنها ليست شيئا غير موضوعي كما يتخيل البعض.. وخصوصا في البلاد المستقلة حديثا والأخاذة بسبيل التطور المتقدم.. إن دور الفرد يلعب الدور البارز في تسيير دفة الأمور رغم وجود مؤسسات عديدة وتعقد مشاكل الصراع الطبقي والسياسي. ونحن لا نستطيع أن نفهم سياسة بلد من تلك البلاد دون أن نضع اعتبارا كبيرا للمدرسة السياسية التي ينتمي إليها الجالس على قمة السلطة فيه. ولعل ثورة 23 يوليو كانت تجسيدا أمثل لهذه النظرية. والمدرسة السياسية التي ينتمي إليها أنور السادات تتأثر كثيرا جدا بصفات الفلاح المصري وطباعه. إن البساطة التي طبعت شخصية أنور السادات ابن ميت أبوالكوم. واختلاطه المستمر بالفلاحين.. سواء في الصغر أو الآن.. لا شك أنه تلعب دورا رئيسيا في تشكيل الاتجاهات الديمقراطية عند رئيس الجمهورية طبعا هناك أيضا عامل آخر هو التجربة السياسية الغنية لأنور السادات منذ صباه في النشاط الوطني والثوري ومعداته للاضطهاد. فأنور السادات هو واحد من قليلين جدا بين الضباط الأحرار الذين عرف كل الأحزاب السياسية.. ودرسوها من وقع التلاحم معها في العمل. ومن هنا.. نجده ميالا إلى ترك حرية الرأي والتصارع من أجل الخلاف في الرأي دون أن يرى في ذلك تمهيدا للسلطة والنظام. بل إن الاضطهاد الذي لقيه السادات في السجون هو المحرك الأساسي للحملة التي جرت في السنتين الأخيرتين لإصلاح حال السجون والسادات هو الذي أمر بأن يسمح للمسجونين بأخذ إجازات لزيارة أهلهم.. وهو أمر لا يطبق إلا في أكثر بلاد العالم تقدما وحضارة. والبساطة التي يعيشها السادات.. معروفة. ويلمسها أهل قريته كل يوم والمرء يحار ماذا يحكي. ما يكاد الرئيس يصل ميت أبوالكوم حتى يرتدي الجلباب البلدي.. ويرتدي العباءة إن كان الوقت وقت شتاء.. و«المداس» في قدميه.. والعصا في يده.. ويخرج إلى أهل القرية. أما يجلس معهم في «المضيفة» حيث يتحدثون.. ويتحدث إليهم، حتى ليحكي بعضهم النوادر والقصص ويذكر، كما يحكي الرئيس نوادر من طفولته فلانا بالحادث الفلاني.. وفلانا بقصة كذا.. وهكذا. ويحكي الجزار عبدالعزيز محمد غراب كيف ذكره الرئيس مرة في إحدى تلك الجلسات بالجاموسة «الوقيع» التي كان يدور بها في القرية ومن ورائه صبيتها وهم يصرخون: الرطل بقرش أبيض! ولكن السادات من خلال هذه القصص جميعا.. يخرج بصورة واضحة من مشاكل الريف.. ومشاكل الفلاح. > لماذا لا يطالبون الناس في ميت أبوالكوم لا يتميزون عن فلاحي أي قرية في المنوفية.. عددهم «2200 نسمة» معظم سكانها من أقاربه، فالقرية علي حد قول أمين الاتحاد الاشتراكي «فيها» أو «أسر كلهم أقارب». ومن هنا فإن الرئيس عرف من أحاديثه معهم في الشهر الماضي أن الطفل الذي يعمل في نقاوة دودة القطن يتقاضى ستة قروش فقط في اليوم.. فقال مستنكرا: - في الشمس جهنم دي.. ستة صاغ يعملوا إيه. وأمر أن يرتفع الأجر إلى عشرة قروش. ونفذ القرار على كل أطفال نقاوة الدودة في الجمهورية. وعندما يعرف الرئيس أن فلانا مات، يتوجه بنفسه إلي بيت المتوفى ليأخذ «بخاطر» عائلته.. وربما قدم لهم مساعدة مالية من جيبه الخاص.. وإذا حدث وتوفي أحد وهو في القرية.. ذهب بنفسه إلى سرادق العزاء أو المضيفة التي تقام فيها ليلة المآتم.. بل إنه يأمر بإرسال صينية باسمه للمعزين كعادة أهل القرية تماما. وعندما أقيم مأتم أخيه الشهيد عصمت وقف على باب السرادق أكثر من ساعتين يصافح ألوف الفلاحين الذين قدموا للعزاء من كل القرى المجاورة.. ورغم محاولات بعض الفلاحين لإعفائه من هذه المهمة الشائقة إلا أنه أصر على الوقوف وتقبل العزاء. ويؤدي أنور السادات الصلاة في مسجد القرية.. وعادته بعد أن تنتهي الصلاة ويقبل عليه أهل القرية يحيونه ويسلمون عليه.. يسأل محمدين عن جاموسته، وعوضين عن محصول القطن عنده هذا العام. ثم قد يتجه إلى الدكة أمام دوار العمدة الواقع أمام المسجد.. ويجلس قائلا لعامل التليفون: - هات يا عبدالمنعم الشاي. ويقترح عليه محمد ماضي العمدة أن يجلس داخل الدوار.. فيرفض قائلا: - خلينا نشوف الناس ونقعد معاهم. ويرى.. ويسمع. ولقد يتصور القارئ.. أن أهل قرية أنور السادات يتقدمون له بمطالبة ويلحون عليه بحل مشاكل شخصية لهم. لقد أدهشني.. أن ذلك لا يحدث في معظم الأحيان. ويفسر لي محمد سيد أحمد أمين الجمعية التعاونية في القرية ذلك بقوله: «الفلاحين هنا أكمنهم أهل بلدة عندهم خشا.. يتكسفوا يطلبوا حاجة». ويكمل لي فتحي ماضي الصورة قائلا: - كل واحد هنا في البلد عارف البير وغطاه.. يعني عارفين مشاكل البلد والصعوبات فيها لأن الريس بيقول لنا كل حاجة.. فما يصحش حد يطالب بالتميز عن غيره من خلق الله. ولقد تأثرت كثيرا عندما قال لي شيخ البلد صالح أحمد: "لا يمكن لحد هنا أن يحصل له غرور، وهم شايفين رئيس الجمهورية أبسط من البساطة في تعامله.. لازم الفرعون يهجع ويخشع"! إنهم يرون أنور السادات يتجه إلي ترعة الباجورية.. مع أصدقاء قدامى له مثل فتحي سلمان وأقارب ومعارف.. ثم يفرشون له الحصير ويجلسون علي حافة الترعة.. يشربون الشاي في الأكواب الصغيرة.. ثم يصطادون السمك.. ويأكلون «الفول الحراتي» ويشرب من القلة اللي بجوار الحصر!! وربما جاء نفر من تلاميذ المدارس من قرى مجاورة يتعللون بصيد السمك ليروا رئيس الجمهورية.. وربما حاول رجال الحرس إبعادهم.. برقة.. ولكن أنور السادات.. يرفض.. ويطلب منهم البقاء.. حيث هم.. وربما جاذبهم الحديث في أمور تعليمهم ومستوى الدراسة عندهم وهكذا. > البروتوكول وفقيه القرية: كتبت مرة عن حكاية البروتوكول الخاص بالملوك ورؤساء الجمهوريات في المقابلة. إن من قواعد ذلك البروتوكول الدقيق أن الزائر للحاكم.. لا يدخل أبدا عليه، وإنما ينتظره في غرفة حتى يدخل الحاكم فيقف الزائر.. لأنه لا يجوز ذلك أو رئيس جمهورية أن يقف لزائر إلا لمن كان في مثل منصبه طبعا. ولقد دهشتا عندما زرت الرئيس السادات أنهم أدخلوني عليه ووقف لتحيتي يرحب بي تمام كرب أي بيت عادي. إن ذلك موجود في القرية أيضا.. كل أهل القرية.. عندما يزرونه.. يهب واقفا لتحيتهم.. واحدا.. واحدا.. وهو يسحب يده منزعجا وعجلا عندما يحاول أحدهم مهما كان صغير السن تقبيل يده.. وهو يقبل كبار أهل القرية في جباههم.. بود واحترام لكبر السن! إن شيئا من السلطة لم يغير أصالة الرجل وعراقته. وشخصية الحاج عبدالحميد محمد عيسى فقيه القرية وشيخ الكتاب الذي تعلم فيه أنور السادات حروف الكلمات، قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه.. بفضل أصالة وعراقة السادات. الكثيرون هم المدرسون والفقهاء الذين علموا تلاميذ أصبحوا حكاما فيما بعد، ولكن لم يسمع الناس عن أحد منهم كما سمعوا عن فقيه قرية ميت أبوالكوم الذي كتبت عنه كل الصحف العالمية من النيوزويك إلى التايمز أوف أنديا.. وصور تليفزيونيا.. وفوتوغرافيا و.... لماذا؟ بسبب كلمة واحدة.. الوفاء.. الوفاء.. أنور السادات. إن أنور السادات لا يأتي القرية إلا وتوجه إلى بيت الفقيه.. وتأبط ذراعه.. وداعبه.. وضحك معه.. وردد أمام الناس جميعا قول الشاعر: من علمني حرفا! ولقب حاج الذي يحمله الفقيه.. اكتسبه بفضل وفاء أنور السادات الذي دفع له نفقات الحج من جيبه الخاص وليس من الدولة. ويمكن أن تتصور عراقة رئيس الجمهورية وبسلطته.. من أنه وهو يزور السعودية ليجري مع الملك فيصل أخطر المباحثات لتنسيق معركة المصير.. لم ينس أن يأتي بعقال من الأرض المقدسة «لسيدنا». وقدمه له بنفسه أول مرة جاء فيها إلى القرية بعد عودته من السعودية. وحدث مرة في صلاة الجمعة أن رأى أنور السادات آثار المرض علي وجه الحاج عبدالحميد فسأله عن صحته.. وأمر طبيبه الخاص أن يعوده في البيت ويعالجه.. ولم يكتف بذلك بل أمر ينقله إلى القاهرة وعرضه على أحسن الأخصائيين ليعالج أفضل علاج. من هنا عرفت كل الدنيا الحاج عبدالحميد عيسى. وأهل ميت أبوالكوم يعرفون في السياسة أفضل من أي قرية زرتها.. وذلك لسبب بسيط.. كما قال لنا شوكت نايل الجمال محافظ المنوفية: - أنهم يحضرون ندوات سياسية مستمرة على أعلى مستى! فدائما في جلسات الرئيس مع أهل القرية في المضيفة.. يتحدث الفلاحون في السياسة ويسألونه أسئلة «محرجة». ولعل أكثر الأسئلة إحراجا كان عن الحرب متي ستقوم؟ وكان السادات يطمئنهم.. ويتفادى الإجابة عن موعد قيامها طبعا.. رغم إلحاحهم. وربما لم تسهر مدينة أو قرية مصرية طول الليل وتقف علي شعرها أيام معركة مراكز القوى مثل ميت أبوالكوم.. بل وما حولها من قرى. - ليس لأنه ابن بلدنا.. بل لأننا نعرفه كويس.. ونحبه ونحس أنه أخ لكل واحد فينا ويحمل همومنا ويعمل لخير البلد. - ونتحدى إن واحد فيهم يعرف أهل بلده زي أنور السادات. > هكذا يتحدث الفلاحون هناك وتستعد قرية ميت أبوالكوم هذه الأيام لليالي رمضان.. حيث يقيم السادات في المضيفة في كل ليلة سهرة قرآن ووعظ.. بعد تناول الإفطار في المضيفة أيضا لمن شاء من سكانها.. أو من أهالي القرى المجاورة أو الضيوف الغرباء الذين قد يمرون بالقرية لأي سبب. إن موائد الإفطار معدة لكل طارق، ومن أحب العادات لأنور السادات هي سهرات رمضان مع أهله وعشيرته في المضيفة حتي ساعة السحور. ويروي الفلاحون هناك.. أنه كثيرا ما يترك المضيفة وينتحي في غرفة جانبية يصلي ركعات كثيرة.. ويقرأ القرآن.. ثم يضع المصحف بعد أن يقبله، ويتراجع من الغرفة بظهره.. حتى يخرج منها.. ويعود إلى مجلسه معهم.. يحدثهم عن الإسلام دينا ودنيا.. ودعوة إلى الجهاد ودعوة إلى العدل الاجتماعي. > استراتيجية وتكتيك الفلاح: قلنا في بداية هذا التحقيق إن السادات قد اكتسب من الفلاح المصري أعرق صفاته ومن بينها الدهاء. وانعكس ذلك في أسلوبه السياسي، ولقد عبر أنور السادات بنفسه عن ذلك في كتابه الصغير المشهور: "يا ولدي هذا عمك جمال". عندما تحدث فيه عن مواجهة قادة ثورة 23 يوليو لمشكلة الاحتلال البريطاني في مصر. لقد كان أمامهم نموذج الثورة الفيتنامية وهي تحارب الاحتلال الفرنسي. ولكنهم أشفقوا علي الشعب المصري من تضحيات هائلة في الأرواح وتدمير للمنشآت. وكان أمامهم أسلوب المفاوضات.. وهو أسلوب لم يجد على طول المرحلة الماضية. فماذا فعل القادة.. ومن بينهم أنور السادات.. يقول أنور السادات في كتابه: «فعمدنا إلى مكر الفلاح المصري» ما ترجمته هذه الكلمة الفلاحي «المكر» بلغة الاستراتيجية والتكتيك. لقد اتبع رجال الثورة مع المحتلين الإنجليز الأسلوب التالي: > قاموا بحرب عصابات محدودة ضد قوات الاحتلال في منطقة القنال مهددين الإنجليز بتوسيع تلك الحرب المحدودة إذا ما تعنتوا. > الجلوس إلى مائدة مفاوضات والثبات عند خط معين لا يقدمون بعده تنازلات. > استغلال التناقض بين الاستعمارين الإنجليزي والأمريكي.. وكانت النتيجة أرغام البريطانيين على توقيع معاهدة 1954 التي تضمنت عودة البريطانيين إلى قاعدة القنال إذا ما نشبت حرب عالمية ثالثة. كان ذلك في أكتوبر 1954. في نوفمبر عندما تقدم الاستعمار بمشروع حلف بغداد لم ترفضه مصر فقط بل حاربته. وفي يناير 1955 أعلنت الثورة مع نهرو مبادئ التعايش السلمي والحياد. أي باختصار أن مصر مزقت التحالف مع الغرب ولم يكد يجف مداد معاهدة 1954 التي بمقتضاها حلت الثورة مشكلة المشاكل وهي مشكلة ثمانين ألف جندي بريطاني محتلين.. والذي يراجع تاريخ السادات السياسي.. سيجده أبرع حاكم مصري في المناورة والتخطيط والدهاء. سيذكر التاريخ له عندما كان وكيلا لمجلس الأمة عام 1975 أنه فوت مناورة انقلابية عندما قرر تحويل جلسة مجلس الأمة إلى جلسة سرية بعد أن بدأ تنفيذ المؤامرة. وسيذكر التاريخ له إنقاذه للبلاد من مراكز القوى وكيف تغلب عليها بذكاء ودهاء وهم يمسكون بكل زمام السلطة. وفتح الطريق أمام الحرية تستنشقها الجماهير بعد طول اختناق. وأخيراً وليس آخراً سيذكر التاريخ له براعته المنقطعة النظير.. في خداع العدو الصهيوني ومن وراءه.. حتى تحققت معركة العبور. ومازال الحاضر والمستقبل.. يحمل في أعماقه.. دلائل وشواهد على براعة القيادة السياسية وعبقريتها.. التي تضرب بجذورها إلى ستة آلاف سنة.. من عراقة الفلاح المصري وأصالته.
عدد مجلة روزاليوسف 2413 سبتمبر 1974



