الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

عاجل.. مفكر استراتيجي من أبطال حرب أكتوبر يعاهد نفسه

سمير فرج
سمير فرج

تحت عنوان "تحرير سيناء من الانكسار إلى الانتصار".. نشر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، اليوم السبت، مقالًا للواء دكتور سمير فرج، الخبير الاستراتيجي، قائلًا خلاله: تمر الأيام والسنون بأحداثها التي طالما تذكرناها لنتعلم منها الدروس، وخاصة إن كانت من أجل مصرنا الحبيبة، وعندما نتذكر أحداث الخامس من يونيو ١٩٦٧، الذي يمثل لي ولكل جيلي من المصريين أسوأ كارثة عسكرية وسياسية لمصر في العصر الحديث، حينما قامت إسرائيل في الخامس من يونيو عام ١٩٦٧، بشنِّ هجومها ضد ثلاث دول عربية؛ هي: مصر والأردن وسوريا، والتي أطلقت عليها إسرائيل "حرب الأيام الستة"، لأنها حققت هزيمة هذه الدول الثلاث في ستة أيام، وأطلق عليها العرب "نكسة 67"، ونتيجة لهذه الحرب احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء، والضفة الغربية من الأردن، وقطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية، وهضبة الجولان من سوريا.

ولقد عاهدت نفسي أنني طالما بقيت على قيد الحياة أن أظل أكتب عن هذا اليوم وهذه الحرب؛ لكي تتعلم الأجيال القادمة المأساة التي شاهدناها، وكيف أن هذه الهزيمة تحولت إلى نصر عظيم بفضل شعب مصر وجيشه الذي قدم معركة رائعة لمدة 6 سنوات في حرب الاستنزاف، وقتال شرس في معركة ١٩٧٣.

 

ولقد بدأت أحدث نكسة 67 اعتبارًا من الأول من مايو 67، حين صرّح "ليفي أشكول" رئيس وزراء إسرائيل بأن بلاده سترد بقوة على استمرار العمليات الانتحارية من النشاط الفدائي الفلسطيني ضد إسرائيل، ومن جهة مصر وسوريا تم إعادة تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين، وفي ١٦ مايو أعلنت سوريا من خلال مندوبها في مجلس الأمن أن إسرائيل تعد هجومًا على أراضيها، بعدها أعلنت مصر حالة الطوارئ، وفي ١٧ مايو ١٩٦٧ طلبت مصر سحب قوات الطوارئ الدولية، وفي ٢٠ مايو أعلنت إسرائيل حالة الطوارئ، واستدعاء قوات الاحتياط بعد قيام مصر بدفع قوات عسكرية كبيرة إلى شبه جزيرة سيناء، وفي يوم ٢٢ مايو ١٩٦٧ قامت مصر بإغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، وفي ٢٩ مايو انعقد مجلس الأمن بناء على طلب مصر؛ حيث أكد المندوب المصري أن بلاده لن تكون البادئة بأي عمل عسكري ضد إسرائيل، وفي يوم ٣١ مايو زار الملك حسين القاهرة، وطوى خلافاته مع الرئيس عبد الناصر، ووقّع اتفاقية الدفاع المشترك، والتي أصبحت تضم مصر وسوريا والأردن.  

وفجأة قامت إسرائيل صباح اليوم الخامس من يونيو ١٩٦٧ بتنفيذ ضربة جوية بقوة 200 طائرة ضد الطائرات والقواعد الجوية المصرية والرادارات، حيث نجحت هذه الضربة في إخراج القوات الجوية المصرية من المعركة، واستخدام قنابل جديدة ضد ممرات الإقلاع والهبوط، ومثلما نجحت الضربة الجوية الإسرائيلية ضد مصر، قامت إسرائيل بتنفيذ ضربة جوية أخرى ضد سوريا والأردن، وأصبحت سماوات هذه الدول الثلاث تحت سيطرة القوات الجوية الإسرائيلية.  

وبدأت إسرائيل هجومها البري نحو سيناء، حيث تم الاستيلاء على قطاع غزة في البداية، بعد أن استولت على سيناء بالكامل مستغلة وجود القوات البرية المصرية في سيناء دون غطاء جوي، كذلك شنّت القوات البرية الإسرائيلية هجومها تجاه الضفة الغربية في الأردن، التي كانت تدافع عنها القوات الأردنية، ونجحت إسرائيل في الوصول إلى نهر الأردن، وأغلقت الجسور العشرة الموجودة بين الضفة الغربية والأردن، وفي سوريا استولى الجيش الإسرائيلي على هضبة الجولان بالكامل، وهكذا استولت إسرائيل على سيناء، والضفة الغربية، وهضبة الجولان، والقدس الشرقية.

 

ما أزال أتذكر أحداث هذه الذكرى الأليمة

 

وما أزال أتذكر أحداث هذه الذكرى الأليمة، فلقد كنت أحد ضباط كتيبة مشاة على خط الحدود في منطقة الكونتيلا، وبعد الضربة الجوية يوم 5 يونيو عام ١٩٦٧ صدرت لنا الأوامر بالانسحاب غربًا نجو مدينة نخل، وبعدها إلى ممر متلا، والذي كان مصيدة القوات المسلحة المصرية بطول 32 كم، وبعد تدمير مركباتنا عدنا سيرًا على الأقدام في اتجاه قناة السويس، ومن فوقنا طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية بنيرانها تقتل رجال قواتنا المسلحة خلال مرحلة الانسحاب، ويعلم الله أنني نجوت مرتين من هجوم هذه الطائرات، وسقط كل مرة شهيد عن يميني وعن يساري، وأعتقد أنها من دعوات والدتي رحمها الله.  

ووصلت إلى قناة السويس يوم ٩ يونيو؛ حيث يمثل هذا اليوم أسوأ أيام حياتي، فأنا موجود على الضفة الغربية للقناة وأمامي بمسافة 200 متر عرض القناة العلم الإسرائيلي مرفوع على الضفة الشرقية، ثم قواتنا المدمَّرة في سيناء، وفي الساعة الخامسة أطل علينا الرئيس عبد الناصر في الإذاعة يعلن التنحي عن رئاسة الجمهورية، وكانت لحظة قاتمة في تاريخ مصرنا الحبيبة.  

ولكن بصلابة الجيش المصري والشعب المصري العظيم تم إعادة بناء الدفاعات على قناة السويس؛ لمنع إسرائيل من عبور القناة وتهديد العاصمة، وتمت إعادة هيكلة القوات المسلحة، وتعيين الفريق محمد فوزي وزيرًا للحربية، والفريق عبدالمنعم رياض رئيسًا للأركان، وتمت إعادة تسليح القوات المسلحة بأحدث الأسلحة، والتدريب على هذه الأسلحة، وقام الجيش المصري خلال ٦ سنوات في حرب الاستنزاف بالتجهز والتحضير للخطة الهجومية لاقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف، كذلك قام خلال هذه الفترة بتهجير ثلاث مدن في منطقة القناة، هي: بورسعيد، والإسماعيلية، والسويس، ونجح في بناء حائط الصواريخ الذي كان له الفضل في منع القوات الإسرائيلية.

في التدخل في عملية اقتحام قناة السويس، كذلك نجح الجيش المصري في فترة حرب الاستنزاف في القيام بعمليات رائعة ضد إسرائيل، حيث نجح في إغراق المدمرة إيلات أمام سواحل بورسعيد، والغواصة دافار أمام سواحل الإسكندرية، وعندما جاء السادس من أكتوبر ١٩٧٣ نجحت مصر وشعبها وجيشها في محو هزيمة ٦٧، وأصبح السادس من أكتوبر رمزًا في تخطي هزيمة يونيو ١٩٦٧، وفي كل عام أتذكر هذا اليوم العظيم حاملًا معه أجمل ذكرى لانتصار العسكرية المصرية في العصر الحديث، أستعيد مع القوات المسلحة المصرية، وشعب مصر بأكمله، ذكريات العزة والفخر والكرامة والاستبسال.   

 

وفي كل عام، أستعيد هذا اليوم، بكل دقة، تفاصيل يوم السادس من أكتوبر ٧٣، فتلك التفاصيل لم تفارقني يومًا، وكأنها كانت بالأمس القريب، عندما دخلنا غرفة العمليات في الصباح، وكل مَن بداخلها على علم بأن اليوم، هو يوم الهجوم، واقتحام قناة السويس، وبدأت البلاغات الأولى تتوالى، من استلام المهمة للقادة بتوقيت الهجوم، وتمام استعداد مجموعة المدمرات والغواصات في البحر الأحمر؛ لتنفيذ مهمة إغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية.    وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهرًا، رفعنا خرائط التدريب من على حوائط مركز العمليات، لنضع خرائط "الخطة جرانيت"، لاقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، وتكوين رأس كوبري بعمق ١٥ كم شرق قناة السويس. وفي الواحدة ظهرًا، وقبل بدء الهجوم، حضر الرئيس محمد أنور السادات إلى غرفة العمليات، يتبعه جنود يحملون الشطائر والعصائر، ليبلغنا بأن فضيلة مفتي الديار المصرية قد أباح لنا، نحن المقاتلين على الجبهة، الإفطار في رمضان. وبدأ الجنود في توزيع الشطائر والعصائر، والحقيقة أن الجميع وضعوها في الأدراج، فمن منا يهتم بطعام أو شراب في تلك اللحظات الحاسمة من عمر الوطن؟!.   وبدأ العد التنازلي لشن الحرب، وتلقينا البلاغات بوصول قوات خلف الخطوط، التي اندفعت في عمق سيناء، لإبلاغنا عن تحرك احتياطيات الجانب الإسرائيلي، وما هي إلا دقائق حتى انطلقت قواتنا الجوية في ضربتها الأولى، معلنة بدء الهجوم، ورأينا على شاشات مركز العمليات طائراتنا الحربية تعبر القناة، فتيقنا حينها أن المعركة قد بدأت، بعد سنوات وسنوات من الانتظار، وبدأت البلاغات تتوالى بسقوط نقط خط بارليف، وعبور موجات الاقتحام الأولى وفقًا لخطة "التوجيه 41"، التي أعدها الفريق سعد الدين الشاذلي.   

وبعد نحو ساعة من انتهاء الضربة الجوية الأولى، وإذ نحن منهمكون في تجميع بيانات أعمال القتال، إذا بالفريق الجمسي يهب من مكانه، في اتجاه الفريق الشاذلي، هامسًا في أذنه ببعض الكلمات، قبل أن يتوجها معًا، إلى المشير أحمد إسماعيل، ليستكملوا همساتهم معه، والحقيقة أنني تعجبت، فلا أرى أمامي ما يستدعي الهمس، أو إبلاغ المشير إسماعيل بأمر ما، فالخطة تسير على أكمل وجه، وخسائرنا أقل من المتوقع في تلك اللحظة، ثم رأيت المشير أحمد إسماعيل يستأذن الرئيس السادات في التحدث معه في أمر خاص، وخرج الاثنان من الغرفة إلى غرفة ملحقة، وما هي إلا دقائق معدودة حتى عادا معاً إلى غرفة العمليات، عرفت، فيما بعد، أن المشير إسماعيل كان يبلغ الرئيس السادات بخبر استشهاد شقيقه، أثناء الضربة الجوية، خاصة لعلمه بارتباط الرئيس السادات بشقيقه، الذي كان الأصغر والأقرب له بين إخوته، وعلمت بعدها أن الرئيس السادات تلقى الخبر في قمة الهدوء والثبات، قائلًا "كل الجنود والضباط أبنائي وإخوتي، وهو واحد منهم ... لله ما أعطى ولله ما أخذ، وكل شيء عنده بميعاد". ثم عاد لغرفة العمليات؛ ليطمئن على سير العملية، قبل أن يتوجه للقاء الأستاذ محمد حسنين هيكل، والسفير السوفيتي.  

وما زلت أتذكر أن أجمل خبر أسعدني يوم السادس من أكتوبر ٧٣، هو التقاط المخابرات الحربية المصرية لإشارة لاسلكية موجهة من قائد القوات الجوية الإسرائيلية لجميع الطيارين الإسرائيليين، بمنع الاقتراب من قناة السويس لمسافة ١٥ كم، بعدما شاهد كثافة حائط الصواريخ المصري على شاشة الرادار الإسرائيلي. أرسل تلك الرسالة دون تشفير، غير عابئ بالتقاطنا لها، أمام محاولة إنقاذ قواته، ساعتها تيقنت أن الهجوم المصري سوف ينجح، وأن قواتنا البرية سوف تعبر القناة، وتقتحم خط بارليف، بعدما تمكنت من شل حركة القوات الجوية الإسرائيلية، وتحييد قدرتها على التدخل في هذه العملية، فكان لرجال الدفاع الجوي المصري فضل عظيم وكبير في تحقيق النصر في ملحمة أكتوبر ٧٣.  

بعد الحرب مباشرة، وانتصار قواتنا المسلحة فيها، توجهت للدراسة في كلية "كمبرلي" الملكية في إنجلترا، وبفضل من الله، وبفضل ذلك الانتصار المجيد، مكثت عامًا كاملًا وأنا ضابط متوج بتاج النصر، يشار إليه بالبنان، بأنه أحد أفراد القوات المسلحة المصرية التي قلبت موازين القوى بما حققته في حرب أكتوبر ٧٣، ولم يحدث أن مرت محاضرة إلا وكان السؤال في نهايتها، عن كيفية تحقيق المصريين لذلك النصر، مستخدمين مبادئ جديدة في هذه الحرب، من ابتكارهم خاصة أن مصر وإسرائيل هما الدولتان الوحيدتان اللتان خاضتا حرباً حديثة متكاملة، منذ الحرب العالمية الثانية.  

وقد منحني ذلك الانتصار وانتمائي للقوات المسلحة المصرية فرصة المشاركة في ندوات، ذات طابع سري للغاية، للجيش البريطاني، حول تطوير الفكر القتالي، بعد حرب الشرق الأوسط، وكانت أهمها تطوير سياسة الدفاع المضادة للدبابات في مسرح عمليات غرب أوروبا، أيام الصراع بين حلف وارسو، وحلف الناتو، وكل ذلك بسبب تلك الحرب التي قدّم فيها الجيش المصري أساليب ومفاهيم جديدة في فنون القتال، لم تكن معروفة من قبل، وابتكرها الجيش المصري؛ ليتغلب على مصاعب خط بارليف، ذلك المانع الذي اعتبره البعض أكبر مانع مائي في التاريخ، وأقوى خط دفاعي.   

وأذكر أنه بعد انتصار مصر في حرب أكتوبر ٧٣، غيرت معظم دول العالم من تفاصيل عقائدها العسكرية بناء على ما فعله المصريون في حرب أكتوبر، سواء على مستوى القوات البحرية أو الجوية أو الدفاع الجوي أو حتى في أساليب قتال القوات البرية. أقول هذا ليفخر كل مصري بأداء القوات المسلحة المصرية، في هذه الحرب، التي سُجِّلت في صفحات التاريخ الحديث كأعظم المعارك العسكرية.     

قدَّم الجيش المصري في حرب ١٩٧٣ أساليب ومفاهيم جديدة في فنون القتال، لم تكن معروفة من قبل، ابتكرها الجيش المصري؛ ليتغلب على مصاعب خط بارليف، ذلك المانع الذي اعتبره البعض أكبر مانع مائي في التاريخ، وأقوى خط دفاعي.   

تسببت حرب أكتوبر ١٩٧٣ في تغيير معظم دول العالم من تفاصيل عقائدها العسكرية بناء على ما فعله المصريون في حرب أكتوبر، سواء على مستوى القوات البحرية أو الجوية أو الدفاع الجوي أو حتى في أساليب قتال القوات البرية.    

تم نسخ الرابط