ينبت حب الوطن في القلب نضرا نديا لينصهر في أتون الشدائد والملمات فتشتد جذوته، ويصير قنديل ينير درب العاشقين ويهدي البصيرة إلى ما لم تحط به النواظر خبرا...
وهبتني السماء عائلة تعشق الوطن حتى النخاع، فهكذا نشأت وتربيت وتعلمت أن حب الوطن من حب الله، أن يكون الإنسان زاهدا في كل شيء إلا في عشق وطنه عليه أن يطغى...
لم يكن يوم السادس من أكتوبر في كل عام يوم عادي، بل يجيء محمل بحكايا والدي الحبيب -حفظه الله- وما تسعفه ذاكرته بروايته عن نشأته وطفولته في مدن القناة مصنع الثوار وما كابدته من طغيان سنوات الاحتلال الأسود والذي كان له عظيم الأثر في تبلور شخصية أبي المناضلة، وساهمت في انضمامه لصفوف المقاومة الشعبية في ريعان شبابه عقب هزيمة يونيو وفي أثناء حرب الاستنزاف...
كانت تمر السنون عجافا عقب نكسة يونيو عاما تلو الآخر لتصنع بالرجال ما لم تصنعه العلل،... "اللي كان بياخد إعفاء من الجيش كان يبكي ويصرخ، الكل كان عايز يكون على الجبهة ويحارب"... هكذا قال أبي: "الجندية شرف".، "أن نمحو عار الهزيمة ونثأر لشرف الأمة ونطهر الأرض من دنس الاحتلال تلك الغاية العظمى، النصر أو الشهادة لم تكن محض كلمات جوفاء ترددها الأفواه، بل بركانا يتأجج في صدور الرجال ليشعل نار الثأر في العيون، بانتظار العبور"...
يتذكر أبي يوم السادس من أكتوبر عام 73 بفخر وزهو فتعلو ملامحه المتعبة حماسة تخفي ارتعاشه يديه وما رسمه الدهر على وجهه من تجاعيد تبدو كخريطة قديمة تروي مسار رحلته مع الحياة: "كان يوم عادي قطعه بيانات متوالية للقيادة العامة للقوات المسلحة عبر أسير موجات الإذاعة توقفت معها دقات الساعة برهة من الزمن، مزيج من الخوف والتمني ومئات الأسئلة، الجميع يلتف حول الراديو، يرفعون الأكف بالدعاء ويأبى دمع العين آلا يفيض في نظرة رجاء لرب السماء، بيان تلو الآخر حتى أنطلق بيان العبور العظيم، عبر جنودنا البواسل قناة السويس ورفعوا علم مصر، يبتسم أبي ويكمل حديثه:" لم نشعر بأنفسنا ونحن ننطلق إلى الشارع مكبرين مهللين نحتضن بعضنا البعض، فتحت أبواب المصانع والمدارس، البيوت تصدح بالزغاريط، الكل يتسابق للتبرع بالدم في المستشفيات، طوفان هادر من البشر يكسو الشوارع والميادين يحتفلون بالنصر "...
حال أبي هو حال ملايين المصريين الذين تحملوا ويلات حروب متتالية من تهجير ومقاومة وظروف معيشية صعبة، ضاعفت من عزيمتهم وإصرارهم على النصر كل في ميدانه...
لم يكن نصر أكتوبر المجيد نصرا عسكريا بل درسا لن ينساه التاريخ العسكري، كيف تحطم تحت أقدام جنودنا الشجعان أسطورة الجيش الذي لا يقهر فقهرناه، وسحقنا ما أسموه بارليف المنيع، فلم يمنعنا منه مانعا، إلى أن تهاوت معه أحلام المحتل الغاشم وذهبت أدراج الرياح، كان أكتوبر العظيم عبورا من الألم والهزيمة إلى الأمل بالعزيمة والإرادة، ليظل الإيمان الراسخ بالحق وعدالة القضية والتضحية والبسالة في الدفاع عنها هو السر الأعظم في النصر المبين...
يجيء اليوبيل الذهبي هذا العام ليذكرنا بما حققته مصر من عبور للتنمية الشاملة وتجاوز العقبات واستلهام روح أكتوبر في معركة النهوض وبناء الجمهورية الجديدة، وليكن هذا العام الخمسون للعبور العظيم تجديدا للعهد والولاء للوطن، وميثاقا غليظا، كما كان نصر أكتوبر إرث من سبقونا ، ليكن أرثنا للأجيال القادمة نهضة غير مسبوقة في كافة الميادين، لتظل مصر بحاضرها وحضارتها وتاريخها عظيمة بين الأمم...



