الجمعة 19 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

إنها قصة العطل التي كتبها فريد ريش دورينمات الكاتب السويسري الأكثر شهرة في محيطنا الثقافي المصري والعربي، لتصدر بالألمانية عام 1956.

وقد أثارت القصة عند صدورها ردود أفعال ساخرة من النقاد السويسريين، ولم تستقبلها الحياة الأدبية هناك استقبالاً إيجابياً مثلما تم استقبال أعماله الأخرى المسرحية والأدبية والنظرية.

وقد صدرت ترجمتها في مصر عام 1992 عن دار نشر الكتب خان بترجمة سمير جريس.

وقد حظيت القصة "العطل" بنوع من الترحاب والإعجاب في التلقي المصري لها، إذ تناقش موضوعاً مهماً وهو الفارق بين العدالة والقانون، وتسأل عن مسؤولية الفرد عن الأفعال التي لا تطالها يد القانون.

إنه فريد ريش دورينمات (يناير 1921 – ديسمبر1990).

ولعل أحد أهم أسباب نجاح أعماله في مصر يعود إلى تأثير ديني خفي في نشأته، وهو ما ينعكس في روح البحث عن العدل، وهي المسألة التي تتوافق مع المزاج العام في مصر.

إنه صاحب مسرحية زيارة السيدة العجوز، وهي المسرحية التي تكرر اهتمام المسرحيين في مصر بها كثيراً.

ولأن دورينمات بينما انغمس معاصروه في أوروبا في تيار مسرح اللامعقول وامتداده في الفلسفة العدمية التي تعتقد في عبث الوجود الإنساني، كان هو بدراسته الأصلية للفلسفة واللاهوت وتأثير والده الأب البروتستانتي المتدين في تكوينه المبكر، لا يلحظ هذا اللامعقول، لكنه يلحظ بشكل دقيق التناقضات الإنسانية الغرائبية. وهو يرى أنه: 

"في ظل تعقيد العالم الحديث يكون الشعور بالذنب غير واضح، وتتم تنحيته جانباً، بينما يلعب الغرائبي دوراً ذا شأن في العالم الحديث".

إن كتابته تبحث عن تنقية الفرد المعاصر، وتحكمها عدالة شعرية تؤمن بتحقيق انتصار العدل، وعقاب المخطئ.  ودورينمات أحد أهم الكتاب المنصفين في أوروبا، وليس مدهشاً أن ينتشر في مصر لأنه يصرح بأن أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي كانت تقرأ التراث الإغريقي بالعربية.

وهو أحد المهتمين بالثقافة العربية، بالتأكيد ليست الثقافة العربية مصدراً أساسياً لإبداعه، لكنها تظهر كثيراً فيما كتب، ومنها قصته الشهيرة أبو حنيفة وأنان بن داود، والتي صدرت مع العطل في ذات الكتاب.

يبدو في محاولتي لفهم حضور دورينمات في المسرح المصري أنه يوجد سبب أخر ألا وهو أنه قد تأثر بالفلسفة الألمانية المثالية، وهي فلسفة تتوافق مع الفهم المصري للوجود.

كما أنه يخلط في إبداعه بين المأساة والملهاة معاً، ويحاول على الدوام ابتكار قصص وحبكات درامية تشبه التفكير المسرحي الكلاسيكي الأوروبي لكنه تفكير معاصر، اتفق النقاد في معظمهم على وصفه بالقدرة على كتابة الأسطورة المعاصرة.

ولذلك فقد كان اختيار الكاتب والشاعر المصري يسري حسان لقصة العطل هو اختيار يتوافق مع الذائقة المسرحية المصرية في التلقي، وقد دفع بها إلى منتجة شجاعة هي أوري قدورة وإلى مخرج صاحب رؤية وانضباط مسرحي تراكمي هو المخرج المسرحي سامح بسيوني.

المسرحية بطولة ناصر سيف في دور الفريدو ترابس، خالد محمود في دور المحامي كومار، علاء قوقة في دور وكيل النيابة، رضا إدريس في دور البستاني، أيمن الشيوي في دور القاضي فيرجي، أحمد أبو زيد في دور بيليه الجلاد، منة بكر في دور زوجة الفريدو، نور القاضي في دور عشيقة الفريدو ترابس وزوجة رئيسه في العمل السيد كاكس، وليد الإدفاوي في دور مدير الفندق، رامي حازم في دور الميكانيكي، نور مجدي في دور سيمونا الخادمة.

والمسرحية صمم مناظرها حازم شبل ووضع موسيقاها محمد علام، وإضاءة إبراهيم الفرن.

وبي حرص على ذكر كل فريق العمل نظراً لبهجتي بطاقة انضباط العمل الجماعي الذي حققها عرض "جريمة بيضا" هكذا أسماه صناع العرض المسرحي وهو اسم يحمل جاذبية للجمهور العام.

المسرحية معالجة درامية جادة وطموحة للقصة وتختلف عنها في عدة اختلافات ملحوظة، فقد أضاف يسري حسان أحداثاً وشخصيات جديدة مثل شخصية البستاني ومشاهد ساخرة مثل مشهد مدير الفندق، ومشهد اللقاء مع العشيقة، إلا أن أبرز ما أدخله الكاتب المصري هو تغيير النهاية، ففي قصة العطل يحاسب الفريدو نفسه على جريمته، ويدفعه شعوره بالذنب للانتحار، بينما في عرض جريمة بيضا يبدو أنه قد تم إعدامه.

إنه رجل تعطلت سيارته في قرية منعزلة فدخل في محاكمة هزلية مع قاضٍ ومجموعة من المعتزلين من رجال القانون، اعترف فيها بخيانته لرئيسه في العمل مما حطمه نفسياً ودفعه للمرض والوفاة.

وكانت المحكمة الهزلية قد تحولت لمحاكمة جادة انتهت بتحقيق العدالة، والإعدام في حالتنا المصرية أقرب للمنطق الاجتماعي من صدمة الانتحار بل هو تحقيق واضح لإرادة العدالة.

أما ما يستوقف المتابع للموسم المسرحي الجاري في مسرحية "جريمة بيضا" أنها تجمع جيلاً من الممثلين الجادين قدموا لنا إبداعاً مسرحياً بالغ الاحترافية والإمتاع في عرض باللغة العربية الفصحى ومن إنتاج القطاع الخاص.

إنها الجدية وروح المسرح المصري الذي يجمع خبراته الناضجة كي يتواصل مع الجمهور العام تواصلاً مسرحياً إبداعياً بمعناه الجمالي والمسرحي.

وقد حافظ المخرج المبدع سامح بسيوني على روح دورينمات في إدراك المفارقات وصناعة المشاهد الغرائبية وتفجير الضحك العميق باللغة الغربية الفصحى.

وقد أثبت الفنان القدير رضا إدريس فرضية كادت تغيب عنا في عالمنا المسرحي المصري، ألا وهي مقدرة الفنان على تفجير الضحك باللغة العربية الفصحى، مؤكداً أن هذا الجيل من الممثلين يحمل إبداعاً وخبرة تراكمية تنطلق معلنة عن نفسها بمجرد وجود المخرج المثقف والمنتج الشجاع والبيئة الحاضنة للإبداع.

وفي ذلك حرص المخرج مع مصمم المناظر حازم شبل المتصل بجماليات المسرح المعاصر بطريقة بالغة البساطة والعمق على جماليات الصورة المسرحية، حرصه مع فريق العمل على حيوية التواصل مع الجمهور.

تبقى مسرحية "جريمة بيضا"، التي تعرض على مسرح الهوسابير في القاهرة علامة فنية مهمة، لأنها تذكرنا بأن طريق الاحتراف هو أقصر الطرق للنجاح، وأن احترام المهنة المسرحية خير وسيلة لعودة الجمهور إلى المسرح المصري.

تم نسخ الرابط