الجمعة 26 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

مي حمدي تكتب: زائر من الماضي!

بوابة روز اليوسف

بدأ الأمر حين احتاج بيتنا إلى سباك لإجراء بعض الإصلاحات، فحدثني أخي عن "أشرف" قريب حارس عقارنا القديم، والذي كان رفيقنا في ألعاب الطفولة في الشارع، وقد عاد إلى المنطقة مؤخراً كسباك. 

بالكاد تذكرته، فقد مر على مغادرته ما يربو على ثلاثين عاماً حولتني من طفلة عمرها 10 سنوات إلى طفلة أربعينية لم تتغير كثيرا حياتها ، ولا قلبها!  كان قد سقط من الذاكرة ككثير مما سقط ومن سقط،  ولكن ما أن جاء ذكره حتى تذكرته، وتذكرت هيئته، وإن كان بدون ملامح واضحة. 

اتصل أخي بأشرف والذي كان منشغلا بعمل في منطقة بعيدة، ولكن ما أن عرف أن الإصلاحات المطلوبة هي لأسرتنا حتى أقسم أن يكون  في بيتنا قبل العصر، وقد فعل! دخل على والدتي متبسما فرحا بشوق الابن البار ، وأخبرها أنه منذ عاد إلى المنطقة، كان كلما رأى سيدة في سن قريبة من سنها تخرج من عمارتنا، يهرع إليها ليتأكد إذا ما كانت هي أمي، راعية طفولته، وأنه كان يمر كل فترة لإلقاء نظرة على العمارة التي احتضنت ذكريات طفولته. 

تحدث عن ذكريات جميلة، وأشخاص خرجوا من حياتنا منذ زمن، ولكن ما أن أتت سيرتهم حتى تذكرناهم بكل خير. حكى لنا أخبار أخته التي كانت تلعب معي في طفولتي، وأخيه الأكبر الذي كان قد يصطحبنا إلى المدرسة أحيانا. حكى بسعادة قلب بريء وشغف طفل صغير عن لعبه لكرة القدم و"الأتاري" مع أخي، وأقسم أن نكهة طعام والدتي مازالت في فمه، وحكي عن تفاصيل في بيتنا كنت أنا نفسي قد نسيتها. اصطحب معه ابنته الصغيرة لتحيتنا، وأبى أن يأخذ أجر الإصلاحات.

ذكرني بجدي وأبي رحمهما الله، وبصديقاتي وجيراني القدامى، وبحينا في فترة الثمانينات الجميلة، حين كان هادئاً رقيقاً راقياً قبل أن تُقتلع "الفيلات"، وتٌقحم الأبراج، وتزدحم الأمكنة، ويغزوها الأغراب، ويرحل عنها الرفاق والأحبة.  منحني أسباباً أكثر لاستمراري في حب شارعنا الطيب، الذي سكنًاه أباً عن جد، وتمسكي به رغم تلك المستحدثات، وحب بيتنا الذي لم أبرحه منذ ولادتي، رغم هجرة الجميع إلى الخارج أو إلى "الكمباوند"، الذي لا أجد روحاً رغم جمال شكله. 

كبر أشرف فأصبح سباكاً ماهراً أمينا، ومخلصاً لذكريات طفولته، وكبرنا نحن وسرنا إلى الوظائف التي كتبها لنا القدر وساقتنا إليها الشريحة الاجتماعية، ومازلنا تجمعنا ذكريات طفولة سعيدة احتضنتنا سوياً دون أن يشوهها تفرقة بين طبقة أو أخرى. 

آه لو علمنا كيف تؤثر أفعالنا في الآخرين، خاصة في طفولتهم، لاهتممنا بأفعالنا وفكرنا جيداً قبل أي تصرف قد يجرح إنساناً أو يشكل له ذكريات وردية لا ينساها طوال عمره. وبكل تأكيد لو كان للجميع إخلاص أشرف ووفاؤه لأصبح العالم مكاناً أجمل! 

 

 

- كاتبة حرة ومرشدة تربوية

تم نسخ الرابط