الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

آخر مرة التقينا في صالون محمود لبيب "حلاق" الرؤساء والمشاهير، وأصر صلاح الدين عثمان السعدني وقتها على دعوتي لمنزله بالمهندسين، قبل أن يستقر للسكن بمنزله في مدينة السادس من أكتوبر، وقبل أن يتوقف عن التمثيل، ويقع فريسة متاعب كبر السن، يومها دعي صديقه الفنان محمد وفيق للمشاركة في محاولة لإخراجه من أحزانه بعد وفاة زوجته الفنانة كوثر العسال في هذه الفترة، ولكنه اعتذر.

جلسنا لتنساب قصص الذكريات الصامتة، ونسترجع منتصف الستينيات عندما التقينا لأول مرة في مكتب أخيه عم محمود، كما كنا نطلق عليه في روزاليوسف. وقتها كان الفتى العشريني نحيف القامة قد انتهى من تصوير دور أبو المكارم الفتى "الأخرس" في المحاولة الأولى له في العمل التليفزيوني مسلسل "الضحية" بالأبيض والأسود على الشاشة الصغيرة للأديب عبد المنعم الصاوي، ومن إخراج نور الدمرداش.

قدمه لي محمود السعدني ليس كممثل ناشئ بل بصفته الطالب بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، وعلمت وقتها من صلاح أنه عاشق للتمثيل وحب الفن، مشاركاً في مسرح كلية الزراعة، والوقوف على خشبته، مع زميل له يرأس الفرقة اسمه عادل إمام، ربطتهما الصداقة، وعلاقة قوية استمرت طويلا.

                                                                        

في كتابه "المضحكون" وثق الكاتب الراحل محمود السعدني، مثلثا أسهم في صناعة الفن المصري والعربي وتركوا أعمالا تخلد ذكراهم لأجيال قادمة.. سيرة شلة الصيع كما وصفها (عادل وسعيد وصلاح) وقدم في صفحات كتابه وصفة سحرية لكل واحد منهم، أول من التزم بها عادل إمام وأسهمت بالفعل في نجوميته وإنقاذ شقيقه صلاح السعدني من التيه بعدما تخبط بين الفن والثقافة، وسيطرت أفكاره وظروف أكل العيش على بداية مشواره، نشأ صلاح السعدني في كنف أخيه الأكبر الصحفي الكبير محمود السعدني، الذي أثْرى شخصيته ثقافياً،  وأثر عليها في ظل الآراء التي سُجن محمود بسببها في عهد الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وهو ما أثر  على أدوار صلاح الفنية، لاسيما مع آرائه السياسية هو أيضاً.

وقال أكرم السعدني، نجل الكاتب الساخر محمود السعدني، في قناته على يوتيوب "سعدنيات" التي يؤرخ فيها لحياة والده: "حينما غاب أحد الممثلين في الرواية المسرحية التي كتبها الراحل الساخر محمود السعدني بعنوان "عزبة بنايوتي"، وكانت من إخراج الراحل عبد الرحمن الخميسي على أحد مسارح القاهرة، وكان وقتها الراحل صلاح السعدني في المرحلة الثانوية، وكان يعشق التمثيل ويذهب مع شقيقه كل يوم لحضور بروفات المسرحية مع الممثلين وحفظ المسرحية عن ظهر قلب".

وأضاف: "أحد الممثلين غاب عن حضور المسرحية لعذر ما، وكانت قد بدأت المسرحية عروضها ووجد عبد الرحمن الخميسي أن هناك موقفا محرجا للمسرحية يمكن أن يتوقف عرضها بسبب غيابه ولا بديل عن وقف المسرحية إلا أن يكون هناك من يحفظ الدور ووجد الشاب وقتها صلاح السعدني فرصة في التمثيل بديلا عن الفنان الراحل أبوالفتوح عمارة الذي غاب عن العرض، وكان قد أذهل الجميع بحفظه للمسرحية كلها بكل أدوارها، وأكد الشاب صلاح السعدني وقتها للراحل عبد الرحمن الخميسي أنه يستطيع القيام بدور أبوالفتوح عمارة وليس فقط الدور ولكنه أدهشه بحفظه لحركة الممثل أيضا على خشبة المسرح فقام بإعطائه الدور لإنقاذ الموقف".

وأردف: "الراحل عبدالرحمن الخميسي فوجئ بأداء عبقري للفنان الراحل صلاح السعدني أبهره، مما جعله يطلب من شقيقه الأكبر ومؤلف الرواية المسرحية محمود السعدني أن يترك شقيقه صلاح يستمر في أداء دور أبوالفتوح عمارة نظرا لبراعته في تمثيل دور الممثل الغائب لكن وجد رفضا شديدا من الكاتب الساخر محمود السعدني أن يقوم شقيقه بالتمثيل وقتها لأن التمثيل سيلهيه عن استكمال دراسته".

وعن رحلة صلاح السعدني في عالم التمثيل، أشار إلى أن عمه الراحل "بدأ عالم التمثيل في مدرسة السعيدية الثانوية وأكمل حبه للمسرح في كلية الزراعة بعد أن تعرف على الفنان عادل إمام والراحل سعيد صالح وكونوا صداقة فنية امتدت لسنوات".

                                                                                                             

عشق المقاهي وحكاويها، وتعلم منها الكثير في بداياته المتواضعة، فكان يعتبرها بمثابة ساحة للإبداع والثقافة، فهناك التقى عددا كبيرا من أدباء الخمسينيات والستينيات، من خلال صحبته لأخيه الأكبر الكاتب الصحفي الراحل محمود السعدني، الذي تأثر به خلال مراحل حياته المتقدمة، فمنذ صغره وهو يعتبر أخاه مثله الأعلى وكان دائمًا ما يردد قائلًا "إن محمود أبي الذي لم تلده جدتي"، ويرافقه مع أصدقائه من كبار الأدباء المثقفين أمثال كامل الشناوي وزكريا الحجاوي ونعمان عاشور وألفريد فرج وعبدالرحمن الخميسي وغيرهم، ليصبح منهجه "أن تكون مثقفًا موهوبًا.. خير من أن تكون نجمًا أحمق"، لم يكن السعدني مجرد ممثل، بل كان راويًا للقصص، وانعكاسًا لروح مصر، وصوتًا لشعبها. لقد جسّد حضوره على الشاشة تعقيدات مجتمعنا بصدق وجاذبية لا مثيل لهما.

 

ومن مقهى "محمد عبدالله" بميدان الجيزة، إلى مقهى "متاتيا" الكائن بميدان العتبة، شهد صلاح السعدني معارك ثقافية عديدة، كان لها أثر كبير عليه، فقد وجد ضالته بها، في البداية بالقراءة والإطلاع، فقد كان مدركًا  لضرورة أن يكون الممثل على وعي تام بكل ما يحدث حوله، وليس كافيًا أن يملك موهبة أو مهارات في الأداء، فقد كان يقضي ساعات طويلة في غرفة مكتبه، للقراءة والكتابة، فهو لديه مكتبة مليئة بالكتب والمؤلفات في مختلف التخصصات والمجالات، ولا يهتم بالظهور في المناسبات الفنية أو غيرها. كما كان معروفًا بأنه فنان مثقف يختلف عن غيره من أبناء جيله،

بالاضافة لميوله  للكتابة الأدبية، تحولت إلى هواية فقط، نظرًا لتكريس حياته لأكثر من نصف قرن للتمثيل، وكان له دور في تحويل رواية "الوتد" للكاتب الراحل خيري شلبي إلى عمل تليفزيوني، فقد كان يدرك ضرورة أن تقترن الدراما الجيدة بأدب جيد، فقد كان يختار أعماله بدقة شديدة وظهر ذلك جليًا في الدراما مع روائع الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة «ليالي الحلمية» و«أرابيسك» التي تعد من أكثر المسلسلات شعبية في مصر والشرق الأوسط، وجسد أبطال روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، وحل ضيفًا في المسرح وخاصة بأعمال كل من نعمان عاشور، ألفريد فرج، سعد الله ونوس، ونجيب سرور، وفي أحد حواراته، قال صلاح السعدني: أؤمن بأن للفن وظيفة اجتماعية، وأعي تمامًا هذا الدور، وبالتالي فإن اختياراتي نابعة من هذا الوعي، فأنا لست "أراجوزا" ولا مهرجًا في سيرك، فكان لا ينظر إلى الفن على أنه "أكل عيش" بل رسالة سامية يرغب في تقديمها بالمجتمع.

 

لست هنا بصدد عرض أعماله الفنية لمسلسلات وأفلام لا تعد ومسرحياته الناصر صلاح الدين، ثورة الموتى، الملك هو الملك، باللو وزهرة الصبار أو الحديث عن أعماله البارزة ليالي الحلمية، وأرابيسك.. بل لتقديم الفنان المثقف الفنان المصري الأصيل، الصادق، صاحب التاريخ الإبداعي المتميز وأحد رموز النخبة المبدعة المثقفة، المؤمن بأن النخبة هي محرك التغيير والتحديث والتطوير في المجتمعات الحديثة، فأي مجتمع ليست له نخبة فاعلة تاريخيا لا يمكن أن ينتقل إلى الأفضل،

في الفن ساعدته أصوله الريفية على إجادة لهجة الفلاحين في دور "العمدة سليمان غانم" في مسلسل "ليالي الحلمية" الذي أنجزه بمقاييس قياسية مذهلة حجزت له مقعده الخالد بين عباقرة فن التمثيل في مصر، كما تعامل الفنان الراحل مع أساتذة التأليف الدرامي أصحاب الرؤى الفكرية المميزة في مصر مثل أسامه أنور عكاشة، ومحمد صفاء عامر، ووحيد حامد.

كما قدم حسن أرابيسك بأداء رائع في وصفة مصراوية بديعة لحلم مواطن مبدع ومثقف يعي دوره، ويقدم خالص خبراته المهنية ورؤيته الجمالية المستمدة من خبراته بتراث بلده وتاريخها الثري والمتنوع رغم نصيبه المحدود من التعليم، كما رسم الشخصية الكاتب العظيم أسامة أنور عكاشة في رائعته "أرابيسك وسيرة حسن النعماني".

تَربّى سياسيا على يد أخيه الكاتب الساخر محمود السعدني، والكاتب إحسان عبد القدوس، والشاعر والصحفي كامل الشناوي، وكان مؤيدا بشدة لفترة حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لما كان فيها من انتعاش اقتصادي واجتماعي، في نظره، ووصف أيامه بأنها "خير وأمل"، لكنه انتقدها على المستوى السياسي لغياب الديمقراطية وقتها اعتقل شقيقه محمود السعدني خلال حكم الرئيس الراحل أنور السادات، مما أثر على مسيرة صلاح الفنية ومُنع من التمثيل لمدة عامين بسبب آراء أخيه.  

عام 1984 وبعد وفاة السادات، عرض عليه الترشح لانتخابات مجلس الشعب عن الحزب الوطني، لكن شقيقه محمود حذره من ممارسة السياسة ونصحه بالتركيز في مجاله الفني، وقال إن الأفضل له خدمة الوطن من خلال أعماله الفنية التي تنشر الوعي في المجتمع.

  كان صلاح السعدني إنسانا رائعا طيب القلب، رقيق العواطف، ومثالاً نجيباً رائعاً للفنان المثقف المتابع للحركة الفكرية والأدبية، تعامَل مع التمثيل باعتباره "أداة ثورية" لتغيير المجتمع نحو الأفضل وتحقيق قيم "الحق والخير والجمال"، وهو ما انعكس في خياراته. ويشرح "السعدني" فلسفته في التمثيل ورؤيته الفكرية لمهنته، قائلا: "أؤمن بأنّ للفن وظيفة اجتماعية، وأعي تماماً هذا الدور، وبالتالي فإن اختياراتي نابعة من هذا الوعي، فأنا لست أراجوازا ولا مهرجاً في سيرك،

 

رحم الله الفنان المثقف المبدع صلاح السعدني

تم نسخ الرابط